ايمان بشيرمن معالم مخيم القاسمية أمران لا ثالث لهما: الأول بائع البوظة والثاني أبو علي الحلّاق. يشترك الاثنان في ظاهرة غريبة لا يمكن أن يراهما الناس إلا في المخيم وهي «الموتسيك». «الموتسيك» تعني الدراجة، يأتي بائع البوظة من مدينة صور محملاً بمختلف الأنواع والنكهات، فيلتف أولاد المخيم حوله مترقبين دورهم بالحصول على «كوز» من البوظة «الرخوصة» التي لا يتجاوز سعرها «بالكتير» 500 ليرة.
لم تكن البوظة ولا يوم لذيذة، لكن شهوة انتظار بائعها طوال النهار كانت تجعلها من أشهى ما يمكن الحصول عليه أيامها، مع العلم بأن جميع أنواعها ونكهاتها كانت بالطعم نفسه، وكحال جميع الأولاد في القاسمية، كنت وإخوتي ننتظر بائع البوظة بشوق كبير، ولو كان دكان بشير أو أبي طارق لا يبعدان خمس دقائق عن بيت ستي أم ناصر، وحتى لو كان حي «الغوارنة» معززاً في بقالاته بأغلى أنواع البوظة وأشهاها، إلا أن بوظة «البياع أبو موتسيك» تبقى لها مكانة ومعزّة خاصة في قلوب جميع الأولاد في المخيم. ربما لأن البائع كان بشوشاً، فأنا لم أسمع صوته ولا مرة، وحتى أنني لا أعرف اسمه حتى اليوم، كان دائماً مبتسماً، لم يشكو ولو مرة من «عجقة» الأولاد، مما جعلنا ننتظر قدومه إلى المخيم، إلى حين نسمع صوت «الموتسيك» فنحضّر «الخمسمية» ونخرج إلى الشارع بانتظاره.
لكن لم يكن دائماً هدير «الموتسيك» إشارةً لغزو البوظة، فكثيراً ما كان إشارةً مشؤومةً لغزو الشعر حتى القضاء عليه أحياناً، وهنا أتحدث عن أبي علي الحلاق. أبو علي ليس فقط حلاقاً رجالياً بل أيضاً كوافير نسائي من الطراز «الأسوأ»، ورغم ذلك كان يحلق لجميع الصبيان والبنات على حد سواء. كان أبو علي «ولا يزال» يضع كرسياً صغيراً على «الموستيك»، وفي السلة الأمامية كان يضع الأدوات، فيجلس الأولاد على مقصلة الشعر إلى حين تبدأ المجزرة وتتعالى المناجاة. ومثل البوظة تماماً، لا تختلف قصّات الشعر والموديلات عند أبي علي، حتى أنني أصبحت أشبه ليس فقط إخوتي بل جميع أولاد المخيم، حيث كان أبو علي يضع «الطاسة» على رأس الجميع ويقص لنا القصّة ذاتها، ثم يحاول أن يقنع الأمهات بأن الموديل مختلف من الأمام أو الوراء! قد يخطر ببالكم لماذا تجني أمهاتنا علينا بقصّة شعر تحطم النفسية منذ الصغر، الجواب بسيط، أبو علي كان ولا يزال الحلاق الوحيد في مخيم القاسمية!
كان ولا يزال أبو علي صامداً كأهم معالم مخيم القاسمية، رغم موديلات الشعر الرديئة، والطاسة، والكرسي الصغير. أعجب أحياناً من أهل المخيم، «إنو ما حلّه حدا يتعلم هالصنعة ويرحم أولادنا؟!» ربما أبو علي ككثير من الأشياء التي لا تتغير في المخيم، مثل الشارع «المكسّر» و«شرطان الكهربا» و«المجارير الطايفة». فيبقى أبو علي، وتبقى القاسمية.