بيجي | صوت المذياع يصدح بعبارات مقتطعة من خطاب للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، يعقبها نشيد باللهجة العراقية. هذا الصوت ليس في ضاحية بيروت الجنوبية ولا في جبل عامل اللبناني. هذا الصوت في قلب العراق، وتحديداً على الدرب الواصل من كربلاء إلى سامراء. تلك التي كان اسمها في ما مضى «سرّ من رأى»، بلدة جميلة شيّدها المعتصم العباسي، وتقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة في محافظة صلاح الدين، وتبعد 125 كيلومتراً عن العاصمة العراقية بغداد.
قبيل الانطلاق يحاول أحد الأصدقاء التثبّت من «التاكسي» الذي يجب أن يكون «ثقة وآمناً»، بناءً على توصية مسبقة بسبب تحذيرات من حوادث خطف حصلت وأخرى محتملة. يأخذ رقم السيارة ثم يتبادل رقم الهاتف مع السائق، قبل أن تبدأ الرحلة باتجاه بغداد. خلال الطريق، وفي محاولة لجرّك إلى حديث بغية معرفة وجهتك الحقيقية من باب الفضول، يبادرك السائق بالقول: «لبناني؟»، ثم يُخبرك بأنّه سبق أن أقلّ لبنانيين كُثراً، معظمهم جاء لزيارة العتبة المقدسة وآخرون للجهاد. تهزّ رأسك ثم تنظر من نافذة السيارة. على مداخل بعض البلدات، تصادفك صورة عُلِّقت لـ«إرهابيين مطلوبين»، مع تحديد مكافأة لمن يُسلّمهم أو يمتلك معلومات عنهم. أربع أو خمس صور ذُيّلت بأسماء أصحابها. تتكرر بعض الصور على أحد حواجز التفتيش التي نُصبت في الطريق، علماً بأنها تُسمى هنا «سيطرة». يُخبرك السائق أن «الدواعش وصلوا إلى هنا قبل أن يدحرهم الحشد»، معدّداً روايات عن «قطع مسلّحين متشددين طريق السيارات القادمة من كربلاء إلى بغداد لإجبارهم على التبرّؤ من أهل البيت ثم قتلهم مع عائلاتهم أو خطفهم حتى». أما اليوم، فيُخبرك بأن الأمان عاد إلى هذه الطريق.
هذا على الأرض. أما في السماء فقصة أخرى. بين حينٍ وآخر، تلفت انتباهك مروحية أو اثنتان تُحلّقان في السماء. يُعلّق السائق بأنهم «الأمريكان». تسأل عن وجهتهما، فيُخبرك أنهما تقصدان الأنبار لـ«قصف الدواعش». إذاً، هنا يُقاتل الإيراني والأميركي جنباً إلى جنب؟ استنتاجٌ على صيغة سؤال يستفزّ السائق الذي يرد بالقول: «يا أخي الطائرات الأميركية قصفت مرات عدة مراكز للحشد وللإيرانيين زاعمة أنّ القصف جاء عن طريق الخطأ». ثم يُعقّب: «لكن بالتأكيد خطأ مقصود»، ويضيف: «قد تتقاطع مصالحك مع عدوّك، لكن ذلك لا يُغيّر في أنه سيبقى عدوّك».

على مداخل بعض البلدات تصادفك صورة عُلِّقت لـ«إرهابيين مطلوبين»


وصلنا إلى بغداد. تلحظ ذلك من الأرصفة وإسفلت الطريق وملامح تنظيم تُنبئك بأنك بتّ في عاصمة الدولة. على «حاجز السيطرة»، يشير إلينا العسكري المدجّج بالسلاح، كأنّه في ساحة معركة، بالتوقف. يسأل عن وجهتنا، ثم يطلب جواز السفر. ما إن يعلم أنني «لبناني قادم للزيارة»، بحسب ما بادره السائق بالقول، يومئ برأسه لنا بإكمال الطريق من دون أن يرى جواز السفر حتى.
تغيير طفيف يطرأ على مسار الرحلة. يرد اتصال من مضيفي يشير إليّ بالنزول بـ«بلد» بدلاً من سامراء. ساعتان أو ثلاث كانت قد انقضت على الطريق. تتوقف السيارة على مقربة من حاجز لـ«حركة النجباء»، بحسب ما يظهر من الرايات المرفوعة، على مدخل «بلد». إلى يسار الشارع، «فَرَد» أحد أبناء «بلد» السكاكر والمعلبات والعصير البارد على شكل «بسطة». هناك انتظرنا المضيف. في مقابل مجموعة مَحال متهدّمة، أبلغنا صاحب البسطة أنها دُمّرت بفعل هجومٍ انتحاري على حافلة تقلّ زوّاراً باكستانيين أو إيرانيين، مشيراً إلى أنّها تحوّلت إلى خردة بعد أن قُتل جميع من فيها. بعد ما يقرب من ثلث ساعة، يصل المضيف، لنُكمل المسير نحو بيجي، حيث خط التماس الملتهب مع مقاتلي «الدولة الإسلامية».

أكل السمك مكروه في العراق

نمرّ بسدّ سامراء ونهر دجلة. النهر الذي يحمل في طياته ألف قصة وقصة. تُسألْ، هل تعلم بأن تناول السمك بات مكروهاً هنا؟ فتستفسر عن السبب، تاركاً للمضيف أن يستعيد عبارة كان يكررها الضبّاط الأميركيون: «Send him in the river» (أرسله في النهر)، أي «اقتله». يشير إلى الشمال قائلاً: «تلك هي قاعدة سبايكر. هناك قتل داعش ١٧٠٠ أسير ورماهم في النهر». يخبرك أن «الأسماك كبُرت على لحم الجثث هنا. فكلُّ من يُقتل، يُرمى في النهر. ابتلع نهر دجلة عشرات آلاف الجثث التي تحوّلت غذاءً للأسماك». إلى جانب سامراء تقع تكريت، بلدة الرئيس العراقي السابق صدام حسين. البلدة التي ذاع صيتها في وقت سابق، لكنها أصبحت هادئة نسبياً اليوم.

من بيجي إلى جبل صافي

ليل بيجي هادئ. هدوءٌ يحفّز الخيال على تصور أحداث وقعت في هذه الصحراء، كأنما كان هذا الليل شاهداً عليها أو شهد مقطعاً منها في فيلم سينمائي ما. جذوع نخيل وبيوتٌ قديمة وطقسٌ حارّ نهاراً ولطيف ليلاً. كلها عوامل تُغني المخيّلة من جهة، وتُشجّع على استثمارها في جلسة سمر بعد نهارٍ متعب. جلسة تتخللها نقاشات عن مسار المعركة وصعود «الدولة الإسلامية» في العراق والوضع الميداني في سوريا.
فجأة، تهبّ عاصفة رملية إيذاناً بانتهاء «الجلسة» أمام المقرّ. لن يرغب أحد في أن يبقى وحيداً بالقرب من جذوع النخيل، فيما العاصفة تلفح الوجوه بهواء مشبع بالرمال. دخل الجميع إلى الغرف، لتبدأ بعدها جلسة أخرى فيها الكثير من الحنين إلى مرحلة قتال العدو الإسرائيلي. ذكريات عن جبل صافي والرفيع وقادة شهداء ارتقوا على درب الجهاد والقضية. يحكي الشباب هنا عن المشروع التقسيمي الذي حتّم عليهم أن يكونوا في العراق يقاتلون شبّاناً مغرراً بهم، بدلاً من قتال العدو الإسرائيلي. في الخطوط الأمامية المواجهة للعدو، لا يجد الشبّان ما يفعلونه ليلاً، منتظرين الفجر، سوى تلاوة القرآن وقراءة الأدعية. تتخلل ذلك استراحة خصّصها البعض لتدخين النارجيلة والتواصل مع الأهل عبر تطبيق «الواتساب».
يستيقظ الجميع لأداء صلاة الفجر. يبدأ بعدها العمل. تُعقد الاجتماعات التنسيقية الصباحية، ثم جولة على خطوط التماس وأماكن تحليق «المسيّرات» (طائرات الاستطلاع). في الخارج، تزدحم السيارات الرباعية الدفع التي صُفِّح معظمها. سيارة «التويوتا» هي الأولى هنا إضافة إلى مدرّعات الجيش العراقي والحشد الشعبي. بعض غرف المقرّ تحوّلت إلى خلية نحل للتنسيق بين ضباط عراقيين وإيرانيين ومن حزب الله. تبدأ جولة بعدها بين المقار: هنا تقابل شبّاناً وعائلات لجأوا إلى الحشد الشعبي هرباً من «جحيم داعش». هكذا كان لسان حال من التقتهم «الأخبار» في بيجي، حيث قصّوا تفاصيل الرحلة «من الموت إلى الحياة» عبر جبال المكحول التي دُفنت في متاهتها عشرات العائلات، بعدما قضى أفرادها عطشاً.

غداً : «رحلة الهروب من دولة الإسلام»