Strong>محمد سعيددخلت حرب صعدة اليمنية شهرها الثالث من دون ظهور بارقة أمل لنهايتها، ولا سيّما أنها تحوّلت إلى حرب مفتوحة بين الجيش اليمني والحوثيّين. وبقدر ما تثير هذه الحرب من تساؤلات بشأن مصيرها ومستقبلها، يبرز سؤال آخر عن حركة الحوثيّين، وكيف ظهرت وماهية أهدافها

■ هكذا نشأ الحوثيون وهذه مطالبهم



يرى الباحث والكاتب فواز طرابلسي أن حركة الحوثيّين في صعدة وعمران «تشير إلى نمط المشكلات والأزمات التي تنجم عندما “ينجدل” التهميش الاقتصادي والتمييز السياسي والحرمان الاجتماعي مع الخصوصيات والهويات المذهبية والمناطقية، يزيد من حدة الأزمة ضيق قاعدة السلطة وازدياد طابعها الفردي، والتخلي المتزايد للدولة عن دورها في التنمية والخدمة الاجتماعية، وإطلاق العنان لحرية السوق والاستعاضة عن التوزيع الاجتماعي العادل بشبكات المحسوبية والانتفاع في إطار ممارسة أهل الحكم والتجارة والمقاولات والتصرف بالموارد ومراكمة الثروات من غير رقيب».
شرح وافٍ يصلح مقدمة لنشأة الحوثيين وتسلسل تطورهم وصولاً إلى الحروب الستّ التي اندلعت بينهم وبين السلطة المركزيّة في صنعاء. فقد نشأت «الحركة الحوثيّة» في كنف «حزب الحق» المعارض، الذي ضم عدداً من القضاة الزيديين، إلى أن انفضت عنه مجموعة من الشباب المؤمن بقيادة حسين بدر الدين الحوثي، كرد فعل على نمو وانتشار المدارس الدينية ذات التوجه السلفي الوهابي والتمويل السعودي، الذي كان يحظى بدعم ورعاية جناح في نظام الحكم في صنعاء، من أبرز رموزه الشيخ عبد المجيد الزنداني واللواء علي محسن الأحمر.
ويذكر أن الرئيس اليمني كان قد شجع في أول الأمر الحوثيين ودعمهم بالمال لموازنة نفوذ المدارس الدينية (الوهابية)، بل وزّع عليهم السلاح عام 1994 مكافأة لهم على المشاركة في الحرب الأهلية التي انتهت بإعادة ضم جنوب اليمن. إلا أن مصدر التوتر الأول بين السلطة اليمنية وما كان يعرف بـ «مجاميع الشباب المؤمن» جاء بعد تركيزهم على شعارات معادية للولايات المتحدة وإسرائيل عشية شنّ الولايات المتحدة في عام 1991 عدوانها على العراق، حيث أدوا دوراً مهمّاً في التظاهرات اليمنية المندّدة بالعدوان الأميركي.
ولم يكن أحد يتوقع أن تتحول هذه الشعارات والهتافات إلى تنظيم، وأنها ستكون بداية لقضية تتطور، وتأخذ منحى مختلفاً تماما،ً وتصبح ظاهرة بهذا الحجم، في وقت لم يكن فيه العضو في البرلمان اليمني، حسين بدر الدين الحوثي، شخصية سياسية معروفة، بل برز اسمه سريعاً في ما بعد خلال تطورات تلك الحرب ومراحلها. غير أنه لقي مصرعه في سن الخامسة والأربعين خلال الجولة الأولى من تلك الحرب مع القوات الحكومية في العاشر من أيلول عام 2004.
والحوثي من مواليد صعدة، الواقعة على بعد نحو مئتين وخمسين كيلومتراً إلى الشمال الغربي من صنعاء. وينتمي إلى أسرة زيدية عريقة، ووالده بدر الدين الحوثي من أبرز المراجع العلمية للمذهب الزيدي في اليمن. وكان ابنه حسين، المتأثر بقوة بأفكار واجتهادات والده، قد أسهم بفعّالية، مع رموز وشخصيات مثقفة، في تأسيس «حزب الحق» عام 1990. ونجح في أول انتخابات نيابية عام 1993 عن محافظة صعدة مع صديقه عبد الله الرزامي، الذي أعلنت القوات الحكومية قتله في حملتها الأخيرة باعتباره الرجل الثاني في جماعة «الشباب المؤمن». وسرعان ما دب الخلاف داخل «حزب الحق» في العام الذي أعقب انتهاء حرب صيف عام 1994، وخصوصاً مع اتهام حسين بدر الدين الحوثي بمناصرة قوات الحزب الاشتراكي اليمني، ما أسفر عن انشقاق الحوثي والرزامي عن حزب الحق، وتأسيسهما جماعة «الشباب المؤمن».
وتدهورت العلاقات بين الحوثيين والسلطة اليمنية بعدما كفّرها حسين الحوثي، ورفض الاعتراف بمحافظة صعدة كإحدى المحافظات اليمنية، بل إن البعض يقول إنه أعلن الردّة على النظام الجمهوري، ونصّب نفسه إماماً وحرّم دفع الزكاة للسلطات.
ويُعدّ تنظيم «الشباب المؤمن» الذراع العسكرية لجماعة الحوثيين حالياً. وهو نشأ، حسبما صرح أمينه العام السابق محمد عزان، كفكرة دينية ومنتدى يجتمع فيه الشباب وتدرّس فيه بعض الدروس الدينية والفكرية. وكان الهدف توعية الشباب وإخراجهم من حالة التقوقع والتعصّب وما شابه ذلك. واستمر المنتدى نحو عشر سنوات، منذ عام 1990 إلى عام 2000، وله أدبيات وكتب ونشرات تعكس فكرته ورؤيته. لكن حسين الحوثي تبنّى خطاً آخر ونهجاً جديداً قاده إلى الإعلان بنفسه عن تيار جديد سمّاه «حركة الشعار» المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، والمناصرة للقضية الفلسطينية، رغم أن «الشباب المؤمن» كان على علاقة طيّبة وتعاون جيد مع حزب المؤتمر الشعبي الحاكم في اليمن. وعقب مقتل حسين الحوثي، تولّى والده بدر الدين قيادة جماعة الحوثي، ثم تولّى القيادة لاحقاً عبد الملك الحوثي، الابن الأصغر لبدر الدين، بينما طلب الشقيق الآخر يحيى اللجوء السياسي في ألمانيا.
وتطالب الحركة الحوثية الحكومة اليمنية بـ«إطلاق الحريات السياسية والدينية في منطقة صعدة بموافقة رسمية من السلطات على إنشاء حزب سياسي مدني للجماعة، وإنشاء جامعة معتمدة لها في شتى المجالات المعرفية، وضمان حق أبناء المذهب الزيدي في الكليات الشرعية، واعتماد هذا المذهب مذهباً رئيسياً في اليمن».
وبعد الجولة الثانية من تلك الحرب، عقد اتفاق مع السلطات اليمنية قضى بإطلاق سراح المعتقلين والأسرى والتعويض عن الأضرار، ولكن القتال تجدّد بعدما اتهم كل طرف الآخر بأنه لم يفِ بتعهداته. وعقد اتفاق جديد في العاصمة القطرية الدوحة مطلع عام 2008 أدى إلى وقف الجولة الخامسة من تلك الحرب، وتضمّنت بنوده وقف العمليات العسكرية، وإعلان العفو العام، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين من الطرفين، وإعادة أسلحة الجيش المصادرة، وبسط نفوذ الدولة على كل المناطق، وتحوّل الحوثيين إلى حزب سياسي.
وإزاء تعثّر التنفيذ، أعلن الرئيس اليمني أن توقيع اتفاق الدوحة كان خطأً، لأنه أعطى للحوثيّين الانطباع بأنهم ندّ للدولة. وتضاربت الاتهامات بشأن المسؤولية في عدم التنفيذ، وخلال الجولة الحالية من الحرب أعلن وزير الإعلام اليمني انتهاء العمل باتفاق الدوحة، متّهماً الحوثيين باغتيال الاتفاق.

■ مسار الحروب الست



مسار التوتر في صعدة بدأ قبل خمس سنوات، مع اندلاع الحرب الأولى، لتتوالى الجولات القتالية، وصولاً إلى الحرب السادسة، التي تعدّ الأعنف بين سابقاتها
تؤكد غالبية المصادر أن حرب صعدة الأولى اندلعت في 19 حزيران 2004، عند محاولة الدولة اعتقال حسين الحوثي بعد خروج جماعة «الشباب المؤمن» في تظاهرات حاشدة تندّد بأميركا وإسرائيل. وانتهت الحرب بمقتل حسين الحوثي في أيلول من العام نفسه. ثم توقفت جولتها الأولى نحو عشرة أشهر، عادت بعدها المواجهات المسلحة لتندلع مجدداً في جولة ثانية في آذار من عام 2005 بقيادة بدر الدين الحوثي. الحرب استمرت نحو ثلاثة أسابيع بعد تدخل القوات اليمنية بقوة لإنهائها. وفى نهاية عام 2005، اندلعت الجولة الثالثة، ثم توقفت باتفاق هدنة بين الجانبين، وعادت لتتجدّد في جولة رابعة عام 2006، ثم توقّفت أيضاً باتفاق.
وفي منتصف عام 2007، تمكّن الطرفان من التوصل إلى اتفاق عن طريق وساطة ناجحة بذلتها دولة قطر، حيث وقّعا مع بداية عام 2008 اتفاق الدوحة. غير أن هذه الاتفاقية لم تصمد طويلاً لعدم الالتزام ببنودها، وإثر ذلك تجددت المواجهات المسلحة بين الجانبين عام 2008، إلى أن أعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وقف إطلاق نار أُحاديّ الجانب في تموز من عام 2008، أنشأ بعدها لجنة صعدة للسلام وإعادة الإعمار.
غير أن عمل هذه اللجنة شهد تراجعاً ملحوظاً بسبب شح التمويل، وظلال الأزمة المالية العالمية، فرأت جماعة الحوثي ذلك تراجعاً في تبنّي الحكومة لمسؤوليتها تجاه المنطقة، وعدم وفائها بالتزامها إعادة الإعمار. وفي بدايات آب من العام الجاري، اندلعت الحرب السادسة، التي لا تزال رحاها دائرة وبشكل أعنف من كل الجولات السابقة، إذ تشارك فيها وحدات من الحرس الجمهوري وأخرى من القوات المسلحة وسلاح الجو والأمن المركزي.
وتعزو الحكومة اليمنية قرارها الأخير بتصعيد العمليات العسكرية ضد المسلحين الحوثيين، والمُرفق بشروط ستة لإنهاء الحرب، إلى عوامل عدة أبرزها اعتقادها بأن لا أمل بالتوصل إلى حلّ دبلوماسي، وتوسيع الحوثيين السريع لنطاق هجماتهم لتشمل مناطق استراتيجية خارج محافظة صعدة، والأهم من كل ذلك سيطرة الحوثيّين على مواقع عسكرية مهمّة تابعة للجيش فى المنطقة.
وتزعم الحكومة اليمنية اليوم أنها مضطرّة إلى الردّ بحزم إن كانت تريد الحفاظ على وجودها وهيبتها، إذ لا يمكنها إبداء أيّ ضعف إزاء التحديات المتزايدة المرتبطة بحركة الحوثيّين وتهديدات تنظيم «القاعدة» و«الحراك الجنوبي»، ويتعيّن عليها أن تثبت قدرتها على السيطرة على الوضع في الشمال، إمّا من خلال إيجاد حل سياسى دبلوماسي ولكن بشروطها المعلنة، أو عبر الوسائل العسكرية.

■ البعدان الداخلي والإقليمي والحرب بما خلّفته من قتلى وجرحى وأسرى ومشرّدين، استدعت دخول الأمم المتحدة من خلال العديد من وكالاتها ومؤسساتها الإغاثية والإنسانية في الأزمة، إلى جانب زيارات عدد من مبعوثي المنظمة الدولية وبعض دول العالم لليمن، لبحث الوضع مع مسؤوليها سعياً وراء إيجاد حل. وتخشى أطراف إقليمية ودولية من توسّع رقعة تلك الحرب جغرافياً، مثلما تخشى من دخول أطراف محليين آخرين فيها، وخصوصاً إلى جانب الدولة كبعض القبائل والأحزاب السياسية، أو إلى جانب الحوثيين كأحزاب المعارضة، ما يعنى إطالة أمد الحرب، ووقوع المزيد من الخسائر جرّاء استمرارها.
وتفيد بعض المؤشرات أن الاستثمار السياسي للحرب لا يزال قائماً. ويتساءل مراقبون عن المستفيد من إطالة أمد الحرب، والمحصّلة أنها في غير صالح أيّ من الطرفين، لأن الخسارة عامة وشاملة وعلى جميع فئات الشعب. وإذا ما استمرت هذه الحرب فترة أطول فإنها بالضرورة ستحدّد مصير ومستقبل من يديرها ويشرف عليها.
ويرى الكاتب فوّاز طرابلسي، في ورقة قدّمت إلى الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في مطلع شهر تشرين الأول الجاري، أن الصراع في صعدة يشير إلى التحميل المتزايد للصراع «إلى الوحي الخارجي والارتباطات للخارح، حيث تتهم السلطة في صنعاء الحركة الحوثية بأنها مموّلة ومسلّحة من إيران، ويتّهم الحوثيون بدورهم السعودية بتحريض الحكومة اليمنية عليهم، واستخدام طيرانها لقصف مواقعهم ومنع المدنيين الهاربين من مناطق القتال من اللجوء إلى الأراضي السعودية». ويرى طرابلسي أن تعنّت السلطة لا يعفي حركة الحوثيين من المسؤولية، فهي توحي أنها لا ترى جواباً على التهميش والتمييز إلا في الارتداد على النظام الجمهوري والحلم بإمارة دينية مستقلة في المناطق الشمالية الغربية من اليمن، فيما ينبغي للسلطة اليمنية التراجع عن نهجها في التعاطي مع الصراع الحالي في صعدة، إذ إن الحل لا يمكن أن يكون أمنياً وعسكرياً لأنه قد جرى اختباره ولم يؤدّ ليس إلى الفشل المأساوي فحسب، بل بات يهدّد بتصديع الوحدة الوطنية على امتداد البلد وتفاقم الانقسام والاحتقان الأهلي.