في مثل هذا اليوم
في رمضان الماضي، وبينما كنت أقلب أوراق الروزنامة لأحصي كم بقي منه، علقت عيناي بشدة على الرقم 27. كأن صوتاً لا يسمع، قد صدر منه. قلبت تلك الذاكرة التي لا تستطيع حفظ المعلومة إلا لثلاث ثوان قابلة للاختصار (ما لم يحدث عارض ما وهو دائماً يحدث!) وبعد التقليب والتنقيب وجدت أن لا شيء مهماً حدث في مثل هذا اليوم، سوى ذكرى استشهاد أبو علي مصطفى، ليرحمه الله. لكن لا. هناك شيء آخر. بقيت 27 تحوم في فكري كحشرة طنانة، لا تكف عن الزن إلا حين تصفعها بظاهر يدك أو حين تأخذ بضع قطرات من دمك الذي لا تقل نسبة الهم فيه عن 95% في أغلب الأحيان. كانون الأول، دم.. غزة.. غزة، بدأت أحداث صغيرة تترتب بعضها فوق بعض لتكوّن قطعة فسيفساء غاية بالقبح: صحيح 27/12/2008 تاريخ لعنة غزة الأخيرة، تسعة شهور مرت على تلك اللعنة الهمجية.
غابت غزة عن بالي، لكن جرحها الذي دخل بشهره في آب الماضي، لم ينس، ومائدة رمضان غزة لهذا العام اختلفت عن كل الموائد. فأماكن كثيرة حولها، فرغت ممن كان يشغلها. قيل لي إن مدفع رمضان لم يضرب هذا العام بغزة! ربما حتى لا يفزع الأطفال من جديد. غزة شبعت من الضرب ولو كان مدفع رمضان، ولأن الجرح أنهى شهره التاسع، فقد يطرح شيئاً. فكما قال نزار قباني «إن الأرض تأخذ 9 شهور لتطلع زهرة»، ولا ندري إن كانت الأرض المروية بالدماء ستطرح زيتوناً أو بطلاً هذا الشهر.
عمان ــــ حنين عطا الله

■ ■ ■

صلاة بلا مآذن!

صديقتي حنين: لا أدري لماذا تصرين على تذكيري بذلك التاريخ، لأننا لا نزال على قيد النبض، دون أن نعترف بأننا بالمصادفة لا نزال أحياءً. كأننا لم نَرُق للموت، فلم يأخذنا!
ولا أخفيك سراً بأن كل نوم كنا نعتقده موتاً. فأن تسمع صوت زجاج نافذتك يتكسر، وأن ترى انفجاراً قريباً يهد منزل جارك، فهذا دليل على أنك لا تزال حياً، وخاصة إذا ما أرسل أحدهم «ماسج» على الجوال يسألك بخط مرتجف: إنتَ عايش!
الحدس فقط هو الذي كان يجعلنا نمارس بلا وعي قاعدة غسان كنفاني «العسكرية» للحياة، عندما أدرك أن سماع صوت الرصاصة يعني أنها بعيدة، لكن هل كانت 60 طائرة حربية في 3 دقائق، كفيلة بإبعاد الصاروخ عنا؟ مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الزمن وقياسه بحجم الرصاص وحداثة الأسلحة.
كل شيء في غزة ــــ اللعنة يتأخر: المعبر والوقود والكهرباء والأحلام، وحتى الوطن، وحده الموت كان يدهشنا بسرعته! وفي كل مرة كنا نغمض أعيننا ونقرر الموت ــــ موتاً حقيقياً ــــ بدلاً من الحياة موتاً، نكتشف أن هناك ما بقي لنا (يا غسان!)، وأننا لم نمت بعد، فنشرب القهوة ظناً أنها قد تكون الأخيرة والشتيمة الأخيرة والضحك الأخير واعترافات الحب الأخيرة، قبل أن نصبح كتلة لحم في خبر أول على صفحات جرائد العالم!
لكنه للأسف لم يكن موتاً فريداً أو شخصياً، فإسرائيل لا تمهلنا لاختيار موت جميل، أو جنازة مؤثرة في الرأي العام الدولي، وخاصة أن حفلة الموت تلك كانت مجانية، كالحرب التي قتلتنا ببذخها، وكنا عراة أمامها من الجهات الأربع، بل الجهات المكعبة مع إضافة السقف والأرض في حسابات الاحتمال.
كل شيء تغير في غزة بعد الحرب، الشوارع والمباني والأرصفة، حتى وجوهنا التي أصبحت غريبة عن تلك المدينة ــــ اللعنة، نواجه كل يوم أماكن ذاكرتنا المشوهة. تقسيم التاريخ أيضاً تغير وصار العمر: ما بعد الحرب وما قبل الحرب، وما بين «الآن» و«كانت» مسافة من موت مؤقت وعابر، وجغرافيا معالم جديدة لغزة / لعنتنا الجميلة!
«كان» هناك حي الزيتون، و«الآن» لم يبق سوى اسم الحي وبعض الشجر، كان هناك رصيف ونوافذ وحكايات وكان هنا بيت ومسجد له مئذنة، وكانت لدينا ألعاب نارية كبيرة، وأعلام بيضاء صغيرة وحرب. تلك الحرب علّمتنا أن الخوف نقيض للموت، وأن الحياة أكبر من شعار، تلك الحرب منحتنا الصلاة دون مآذن، كلما شهقنا لفاجعة سقوطها بالقصف الذي يتعمد الأذان فينا.
وعلى سيرة الروزمانة، منذ النهار الأول للحرب لم أعد أحتفظ بأية أوراق يومية، ولم أعد أحسب الأيام والتواريخ. كما أنني تخلصت من عاداتي السيئة في حفظ أرقام الهواتف والإيميلات ودفاتر الملاحظات، وحتى رسائل الجوال وفواتير المطاعم، بعدما اكتشفت ذلك الكم الهائل من التواريخ التي تذكرني بتواريخ أخرى، مؤلمة. وبما أنني على قيد الحياة والذاكرة والحرب، فقد قررت أنا المذكورة أدناه، البحث عما بقي لي من العمر، بين ركام كل هذا الموت اليومي.
غزة ــــ أسماء شاكر