فراس خطيب

■ البلدة القديمة تفتقد ابتسامة



تراها من بعيد، تجلس على عتبة أحد الأدراج، تلقي أمامها كومةً من ملابس الأطفال وقِطعاً صغيرة من القماش. لا أحد يلتفت إليها سوى فتاة آسيوية، التقطت صورةً للحجارة التي خلفها.
تقترب منها لتكلّمها فتبتسم وتحدثك عن الهروب من مدينتها الواقعة خلف الحاجز صباحاً، عن أبنائها الأربعة حين «سُدّت الحياة في وجوههم ولا يجدون اليوم عملاً»، وعن نهار آخر يضيع من العمر الباقي. إنَّها تلك العجوز التي بحثت عن الحياة في حجر تتكئ عليه في البلدة القديمة، لكنَّها وجدت نفسها مشهداً من مشاهد المكان. قصتها تشبه قصصاً كثيرة في المدينة القديمة في القدس المحتلة، ومثلها نساء أخريات، يأتين إلى السوق عند الفجر، ويغادرن عند الليل، ليتركن الرواية تضيع بين حجارة «المدينة المقدسة».
نسمات البرد المقدسّي تتسلل بهدوء إلى ظهيرة باب العمود المؤدي إلى قلب البلدة القديمة. ذلك المكان الذي أغلقته العواصف في الأيام الماضية، يحاول اليوم استعادة أنفاسه. أحد الشبّان المقدسيّين يلف أفعى صفراء على رقبته وآخرون يداعبونها. وإلى جانبهم يقف أربعة عناصر من «حرس الحدود» ينظرون إليه سعداء بالمشهد، وبائع كعك صامت، أنهكه التعب، فحتى الأفعى لا تثيره. أصوات الباعة في السوق لا تزال خافتة، والجوّالون في أروقته ليسوا قادرين على جعل اليوم عادياً. لا شيء عادياً هنا، حتى لو بدا كذلك.
مستوطنون يجولون في السوق، كان ثلاثة منهم يساومون بائعاً فلسطينياً على ثمن بنطال أسود. حين تراهم يحيطون بالبائع، تشعر بأنّك في قلب الصراع، في صلب الخبر، لكنك أيضاً في صلب المفارقة. كلما اقتربت إلى الأعماق، أرّقك سؤال واحد طيلة الطريق: لماذا الناس لا يبتسمون هنا؟
لم تعد القدس المحتلة تتصدّر الخبر الأول في نشرات الأخبار. قد تكون وحدات الشرطة الإسرائيلية فكّت حصاراً فرضته على أزقتها في الأيام الماضية، لكنَّ حصار المدينة الكبير لا يزال قائماً، ولن يزول قريباً على ما يبدو، وسيحتل العناوين بين الفينة والأخرى. الحصار لا يعني تطويق الأفق بالحواجز فحسب، قد تراه على شكل سوق يبدو مثل تحفة فنية لكنّه يفتقر إلى أناس يحيونه، وشبان عاطلين من العمل، خدمات صحية سيئة، وجهاز تعليمي في تردٍّ مستمر. يقول أحد السكان «قللي، كم من الوقت يستطيع الإنسان أن يعيش في هذا التوتّر، يضيّقون علينا، وفي كل فترة قضية. في كلّ مرة يجتثّون جزءاً من القدس يقطّعون أوصالنا أكثر». كم من الوقت سيعيش هؤلاء في صلب العنوان وعلى هامش الحياة؟ إنّهم يعيشون في الوقت الباقي بين العاصفة والأخرى.
قد يلمح المار في البلدة القديمة أعلاماً إسرائيلية على بعض البيوت، منها ما جرى الاستيلاء عليه بطرق عديدة ومنها ما بيع أيضاً. لكن الواقع الفلسطيني، ورغم مأساويته، يبدو حتى الآن مهيمناً رغم المخططات. فالبلدة القديمة لا تزال عربية رغم ما يحدق بها.
لقد اشترى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون بيتاً هناك. لم يسكن فيه، بل نصب عليه علماً إسرائيلياً فقط لـ «التشجيع». السعي للسيطرة لا يسري فقط على الأماكن المقدسة، بل على البلدة القديمة والقدس الشرقية كاملة بأشكال مختلفة، منها بالقوة ومنها وفقاً لتفعيل قوانين سنّت أصلاً من أجل الاستيلاء.
على مقربة من «منزل شارون» كان يقف شاب مقدسي وابنته العائدة للتو من المدرسة. كان يشعل سيجارة، وهي تقف إلى جانبه حاملةً حبة من الحلوى. بدأ الأب الشاب بالشكوى عن حياة المقدسيين في القدس: «كثيرون في العالم الكبير يتمنون زيارة القدس، وأن يعبثوا في هوائها البارد، وأن يعيشوا بين أزقّتها ولكن لو لم أتزوج، لكنت قد غادرت هذا المكان منذ زمن».
يعيش الشابّ في الحي اليهودي في القدس المحتلة، لكنه يشرح طبيعة علاقته بالمستوطنين في المدينة بالقول «لا نتبادل الحديث أبداً، وحاولوا الاعتداء على زوجتي بالضرب. وتخيّل عندما أغلقوا المدينة الأسبوع الماضي، رافقت ابنتي، ووصلنا عند الحاجز الذي نُصب على مقربة من بيتي، وقلت للجندي أريد مرافقتها فرفض، ولكنني صمّمت، قلت له لن أترك طفلة لم تتجاوز الخامسة تذهب وحدها، حتى وافق على أن أسلّمه هويتي، وأنا أرافقها وأعود لآخذ الهوية. تخيل أن مثل هذا الأمر يحدث عند الصباح، ماذا سيبقى من نهارك، ولماذا على هذه الطفلة أن تعاصر مثل هذه المشاهد؟».
يجلس أبو سامر على عتبة محله في شارع الواد، المؤدي إلى المسجد الأقصى. حين تسأله عن الحالة يبتسم. يجيب صوت شاب من داخل محله «تعبانة يا أخي»، ويرد أبو سامر: «أحضِر كرسياً وتعال يا بني لنتحدث. لا زبائن اليوم». غادر أبو سامر القدس المحتلة عند احتلالها عام 1967 وقرّر العودة للعيش مع أهله «عندما يكبر الإنسان يشعر بالغربة عن الوطن. يشتاق إلى الناس واللغة لا كما كنا شباباً».
عمل في مجال المجوهرات، وعاد واستثمر في القدس. سكن في بيت حنينا، وافتتح محلاً تجارياً في القدس. يقول «وجدت نفسي اليوم أتنقّل من مكتب إلى آخر. أحفادي لا يملكون إقامة هنا حسب القانون الإسرائيلي، ويعيشون متاهة بين الإنكليزية والعربية. والحركة قليلة في الدكان. وأولادي يعيشون بين القدس وأميركا. حياة صعبة يا عزيزي». ويضيف «عندما نزور حيفا يفرح أحفادي، يقولون جدي، لا جيش هنا، فأقول لهم نعم. هنا قصة أخرى».
تغادر متجر أبو سامر ومن حوله، وتمضي من حيث أتيت. قصص كثيرة عن مكان واحد. تشعر بأن هواء المدينة ثقيل حتى لو بدت الأحوال هادئة. تعود إلى باب العمود. لا يزال الشبّان يداعبون الأفعى، و«حرس الحدود» متمترساً وبائع الكعك صامتاً. تقترب منه. تتناول كعكة واحدة، تغمسها في “الزعتر” وتأكل، إنَّه الطعم الذي لن تجده في مكان آخر. فرغم كل شيء، يبقى كل شيء خاصاً في هذه المدينة، من السور حتى الكعك.

■ لا يريدون تشغيل مقدسيّين



الشبان ينتشرون في المدينة المقدسة. نسبة بطالة عالية سببها رفض التشغيل. «لا يريدون تشغيل مقدسيّين»، هذا لسان حال الشبان في مدينة لا تخفي فقرها
تمر من بين الأزقّة القديمة، تحاول التجرّد من واقع المدينة وأفقها المغبرّ، لو كنت سائحاً غريباً، لالتقطت صورة عند كل حجرٍ. أزقّة تمر من هنا لتخرج من هناك، لا تعرف كيف دخلت وكيف خرجت. لا ملاعب ولا حدائق للأطفال الفلسطينيين. قد ترى أطفالاً يعبثون بالأزقّة، لا يكترثون للشرطة ولا لحرس الحدود، يقهرون الطبيعة المأساوية بلعبةٍ ما. يبدو الفقر جلياً، لكنّك لا تتخيل هذه الأزقّة فارغة، فلولا الأطفال لما اكتسبت عيشها ولا رونقها. البلدة القديمة في يافا رائعة الجمال أيضاً، وخصوصاً أنها جاثمة على الساحل، لكن منذ أن هجّر فلسطينيّوها بقيت لوحة من دون روح، فالملايين التي أُنفقت عليها، قد توفّر الترميمات والمشهد الجميل، لكن الروح تظلّ منزوعة. في القدس المشهد لا يزال حيّاً ومكتملاً رغم ما يختفي ورائه من مآسٍ.
حوانيت السياح فارغة رغم وجود السيّاح في كل مكان. على مدخل أحد المحالّ يجلس مسنّان يلعبان النرد، وثالث ينتظر دوره، وشابٌ رابع يجلس على كرسيّه منسجماً بلعبةٍ في هاتفه الخلوي، وعجوز صاحب محل أكسسوارات مكفهرّ الوجه ينادي سائحة «هيللو سينورا». إلى جانبهم تجمعات شبان لا متناهية. كان أحد الشبّان يقف قريباً من دكان الملابس، صامتاً لا يتحدث. تسأله عن الوضع ولا يجيب، تكرّر السؤال فيقول «كما ترى عينك»، والعين لا ترى شيئاً سوى ملامحه الغاضبة.
يقول أحمد: «لا أعرف نسباً، لكن غالبية شبّان القدس عاطلون من العمل، عندما يعرفون أنك عربي مقدسي، يقولون لك مع السلامة. لا يريدوننا هنا». ويفتح آخر قضية «حسن السلوك»، فأماكن العمل تطلب شهادة من الشرطة الإسرائيلية قبل بدء العمل «ونحن جيل تحت احتلال، لكلّ شاب هنا حادثة مع الشرطة أو الجيش الإسرائيلي. ويكفي حدث صغير ليظل علامة سوداء في حياتك».
تواصل المرور، على كل زاوية في البلدة القديمة كاميرا لرصد ما يحدث. أمر يزعج السكان إلى حدّ كبير. سلطات فرض القانون تنتشر في القدس «أمنياً» والشرطة مستعدة دائماً لكتابة «مخالفات السير». قد ترى قريباً من الأماكن العربية دوريات شرطة تقف هناك من دون حاجة، ولكن عند الحاجة لا تتدخل.
حال الشباب وما يدور من حول المدينة لا يطمئنان. ترى شبّاناً مستهدَفين هم أيضاً. عاطلون من العمل وسط حيز ضيق وحلول لا تطرق تلك المدينة. ويلخّص أحد الشبان: «تجار المخدّرات يبيعون هنا والشرطة لا تحرّك ساكناً. هل تعرف متى تتدخل؟ إذا صار هذا التاجر يبيع لليهود».

■ استيطان على كل شيءويقول خبير الشؤون القدس والاستيطان خليل التفكجي (الصورة)، في مقابلة خاصة مع «الأخبار»، إنَّ عدد الفلسطينيين كان 70 ألفاً عام 1967، امتلكوا مئة في المئة من الأراضي، لكنّهم اليوم، بعد 42 عاماً من الاحتلال، عددهم 300 ألف يمتلكون 13 في المئة فقط. ويصل عدد المستوطنين إلى 200 ألف في القدس الشرقية.
في حديث عن معنى «الاستيطان»، يرى التفكجي أنَّ استعمال كلمة «استيطان» هي صيغة مخفّفة لما يجري حقيقةً على أرض الواقع. ويضيف «من ناحية جغرافية، فإن أيّ إنسان يسكن على موقع فهو مستوطن. ولكن ما يجري في حالة القدس يختلف، ويجب استعمال كلمة استعمار أو مستعمرات». ويوضح أن ما يجري هو مصادرة بهدف إقامة مستوطنات، «حيث تبنى أبنية إسرائيلية لإسرائيليين لا يُسمح للفلسطيني بالدخول إليها». ويتابع «هنا يوجد زرع جسم غريب مقابل خلع جذور أخرى».
الاستيطان في القدس يتخذ أشكالاً أكثر حدّة مع صعود حكومة اليمين الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو، العازمة على أن تكون في القدس الشرقية غالبية يهودية. كذلك الأمر بالنسبة إلى بلدية القدس اليمينية هي أيضاً. وتعمل في البلدة القديمة جمعيات استيطانية منها «عطيرت كوهانيم» و«إلعاد» التي تمتلك تمويلاً هائلاً لفرض الهيمنة اليهودية على البلدة القديمة. وعلى الرغم من هذا، فإن التفكجي يرى أن عدد البيوت التي استولى عليها المستوطنون «قليل». ويتابع: «هناك 100 علم إسرائيلي داخل البلدة القديمة. لكن هناك آلاف الأعلام الفلسطينية التي تقابلها. كل الجمعيات الاستيطانية لم تستطع أن تشتري إلا الشيء البسيط جداً. في سلوان مثلاً استخدمت كل القوانين. أملاك غائبين وغيرها. لكنهم استولوا على عشرين بيتاً وهذا فشل لهم».
يقول التفكجي إنه «في عام 1973 اتخذت حكومة غولدا مئير قراراً بألّا يزيد عدد العرب في القدس على 22 في المئة، ولكن عددهم اليوم 34 في المئة. لذا تتبع إسرائيل أساليب عديدة لحسم الصراع الديموغرافي، منها هدم المنازل، والاستيطان وسحب الهويات من المقدسيّين. لقد عزلت ما يقارب 125 ألف فلسطيني بواسطة الجدار إلى خارج نفوذ بلدية القدس مقابل ضم مستوطنات. ويريدون اليوم أن تكون نسبة العرب 12 في المئة فقط».