بيجي | من يهرب من أرض «دولة الإسلام» إلى بلاد الكُفر، تُصادر زوجته وأبناؤه. في عُرف التنظيم المتشدِّد، كما يروي الهاربون من حُكمه، «هذا الهارب ارتدّ وبات لأمير المؤمنين حقّ النظر في أمر زوجته وأبنائه وأملاكه». هكذا يُخبر مزهر إبراهيم، أحد سكّان المكحول الذي تمكّن من الهرب عبر الجبال، لـ «الأخبار». ويضيف: «تُزوَّج زوجته لآخر بعدما أصبح الوالي وليّ أمرها وله حق تزويجه بعدما طُلِّقت بردة زوجها، فيما تأخذ الدولة الأبناء لتحدد مستقبلهم».
ورغم ذلك، فإن هلع بعض القاطنين في كنف «الدولة»، إثر تلقيهم معلومات عن احتمال اعتقالهم، دفعهم إلى الفرار وترك كل شيء، بمن فيه زوجاتهم وأولادهم، للنجاة بحياتهم. لماذا لم يُهرِّبوهم معهم وهل يُعقل أن يفعل أحد ذلك؟ تساؤل يُجيب عنه أحدهم في معرض الرد على أحد محققي الحشد الشعبي: «تركتهم في عناية الله. طريق التهريب في الجبال شاقة مات العشرات عليها. ولا أطيق أن تكون عائلتي بينها». لا ينتهي الأمر هنا. تقول إحدى السيدات التي هربت أيضاً: «يسير التنظيم المتشدد على سُنّة اليهود في تفليش المنازل». والتفليش يعني تدمير المنزل بعد مصادرة محتوياته عقاباً لعائلة المرتد الهارب. تذكر أنّ إحدى قريباتها صادروا منزلها وطردوها منها بعد فرار زوجها، وهو نقيب في الجيش العراقي. تقول: «حتى ملابس ابنها لم يعطوها إياها... ولمّا راجعتهم قالوا لها: خلّي هيدا المرتد وايا الروافض يجبلك ياه. وقالولها خلي يسلم نفسوا منعطيكم البيت».

... حيث تدفن آمال عشرات الهاربين

ترك أحد العراقيين زوجته وأولاده في جبال المكحول على الطرقات التي يستخدمها المهرّبون عادة. كانوا قد ضلّوا الطريق وأنهكهم العطش بعدما مشوا أياماً في متاهة لا نهاية لها. أرادوا الهرب من «جند الخلافة» الذين يجولون بدورياتهم على هذا الجبل، لكن لم يعد بإمكان الزوجة إكمال المسير، ومعها طفلان لا يتجاوز كبيرهم الثامنة. خلع الرجل «دشداشته» ليستخدمها كغطاء يقيهم الحرّ الشديد بعدما طلب من أم ولديه الاختباء في إحدى زوايا الجبل، ثم ذهب ليُحضر الماء لهم وكي يأتي بالنجدة... لكنه لم يفلح في ذلك. تمكنت زوجته وولداه من النجاة من «داعش»، لكنهم لم ينجوا من الموت عطشاً. ولدى عودته، وجدهم موتى... دفنهم ثم رجع. قصة يكررها محققون من الحشد الشعبي يستمعون إلى إفادات الهاربين من أرض «دولة الإسلام» على سبيل المعلومات.

في كنف «الدولة الإسلامية»

كان وجه الشاب العراقي ربيع العبدالله، أحد سكّان بلدة المكحول التابعة لقضاء بيجي، أملس بالقرب من لحيته التي تبدو مشذّبة، وقد أطلقها مُكرهاً. اشتبهت «الحسبة» (شرطة «الدولة الإسلامية») التي اشتقت اسمها من محاسبة الناس، في أن ربيع المذكور «ماخد خيط»، أي أنّه قد حدّد لحيته بشفرة حلاقة، فأوقفوه. لم يُصدّق عناصرها أنه لم يمسسها، فشدّ «الشرطيان المسلمان» رجلاه ليُجلد ٢٥ جلدة. تكرر الأمر مع مزهر إبراهيم المكنّى بـ«أبو علي»، أحد سكّان المكحول، الذي جُلِد أيضاً في الشارع بعدما ضُبط متلبّساً بوزار لا يرتفع عن كعب رجليه سوى إصبعين، فيما الشرع ينصّ على رفع الملابس عن كعب القدم قدر شبر أو أربعة أصابع. لا ينتهي الأمر بالجلد وحده، إنما يُلزم هؤلاء بدفع غرامات تراوح بين ٥٠ ألفاً و٢٠٠ ألف دينار عراقي. غير أن الجلد والغرامة تبقى أهون الشرور إذا ما تحوّل الحديث إلى الإعدامات. يحكي هؤلاء عن عمليات الإعدام التي كانت تجري في الساحات، قبل أن تُعلّق الجثث على أعمدة الكهرباء وتتدلّى ريثما يأتي أقارب القتيل الذي أُقيم عليه الحدّ لإنزاله ودفنه.

استقبال «الحكّام الجدد» كالفاتحين

رحّبت بعض البلدات العراقية بـ«جند الخلافة». لم يُقاوم أهلها «الفاتحون» القادمون باسم الإسلام، لإطاحة «الحكم الرافضي». استبشروا خيراً، لكن ذلك لم يدُم طويلاً، فـ«الحكّام الجدد» تجاوزوا بظلمهم سابقيهم. خُنقت الأصوات وكُتِمت الأنفس. «ديننا دين عبودية لا حُريّة وديمقراطية»، عبارةٌ قالها سابقاً قائد «جيش المهاجرين والأنصار» في تنظيم «الدولة الإسلامية» عمر الشيشاني في مقابلته مع مجلة «دابق»، التابعة للتنظيم نفسه. كذلك إن بيعة «أمير المؤمنين»، في عُرف أبناء التنظيم، تُلزم الجميع (عامة الشعب وجند الدولة) بـ «الخضوع لأوامر الخليفة وأحكامه قولاً واحداً من دون منازعة أو عصيان أو مخالفة، أي خضوع مطلق تام لا تشوبه شائبة». تختلف المُدَدْ التي عاشها أهالي قرى قضاء بيجي تحت حُكم «الدولة الإسلامية». وبالتالي تختلف معاناة كلّ منهم، غير أن القاسم المشترك بين هؤلاء يبقى اختيارهم طريق موت محتمل عبر الجبال، بدلاً من تذوّق موت محتّم كانوا يرونه كل يوم.
دخل مقاتلو «الدولة الإسلامية» إلى بلدة المكحول العراقية في 10 حزيران العام الماضي، فكانت الحاضنة الأولى للتنظيم في هذه البقعة، بعدما كانت هذه المنطقة أقدم منطقة احتضنت «القاعدة» منذ وجودها في عام ٢٠٠٤، علماً بأنها كانت تضم «أقلية شيعية» هرّبها بعض أهالي المنطقة قبل دخول التنظيم إلى هذه الناحية بأيام (ينتمي هؤلاء إلى عشائر عبيد والجنابيين والبقّارة والمَشاهدة). وبالتالي، بحسب أحد أهالي المنطقة، «من كان مع القاعدة سابقاً انضم إلى داعش اليوم».

زمن الرعب في حضرة الخلافة

ينقل أحد أبناء البلدة لـ«الأخبار»: «رحّبنا بها باعتبارها آتية لإقامة دولة الإسلام. دخلوا نهار الثلاثاء، فكانت أوّل خطبة جمعة تُخطب في المسجد، يخطبها عضو المجلس المحلي في المكحول والموظف لدى الدولة العراقية علاء محمد ضاحي الذي صار يُعرف لاحقاً بأبو جندل». يستعيد الرجل، الذي ينتمي إلى عشيرة إبراهيم ويُكنى بـ «أبو علي»، بعضاً من كلمات الرجل من على المنبر يومها: «نزفّ لكم بشرى النصر. هنيئاً لكم بالنصر. صبراً يا جماعة التوحيد وشدّوا على أيدي إخوانكم في الدولة الإسلامية الذين خلصوكم من الحكم الرافضي والشيعة». ويروي أبو علي: «عشيرتنا فيهم من قُتل أو اعتُقل فيما انتسب الباقون خوفاً إلى التنظيم».
يتحدث الرجل عن أيام فرح مرّت قبل أن تتكشّف الحقيقة المرة. يُخبر كيف صادروا بعد أيام محتويات المشفى والمدرسة والمخفر، ثم بدأوا يجمعون المنتسبين إلى الدولة العراقية، صحوات أو شرطة أو حرس وطني، ويُخفونهم. يردف ابن المكحول: «بقي المعلم والطبيب فقط. أما المنتسبون فلم نعرف مصيرهم. قالوا ودّيناهم للموصل أو للشرقاط أو القيّارة. من يدري قد يكونون أُعدِموا». ليس هذا فحسب، إذ يضيف الرجل الأربعيني: «حتى أعضاء المجلس المحلي اعتُقلوا لاحقاً بمن فيهم الخطيب أبو جندل، وقيل لنا إنهم قُتلوا، ومن ضمنهم رئيس المجلس المحلي لقرية الشيخ علي سعيد حمد خليفة». حتى بعد فتح المدارس وفق المناهج الإسلامية، أُجبر الأهل على إلباس أبنائهم الثوب الشرعي، الأقرب إلى الأفغاني. أما التنقل داخل حدود «الدولة الإسلامية»، فيتم عبر بطاقة الهوية التي تُحدد نفوس حاملها. أما العسكريون السابقون وموظفو الدولة الذين أعلنوا توبتهم، فتُحرّر لهم ما يُعرف بـ «ورقة توبة». وهذه التوبة لها قيود إلكترونية، إذ ما أن يعطيهم إياها الذي يريد اجتياز الحاجر، يُدخلون الاسم أو الرقم ويعلمون على يد من مِن جماعتهم قد تاب. وبشأن جنسيات المقاتلين الذين ينتسبون إلى التنظيم المتشدد، يذكر الهاربون أنهم «عراقيون وسوريون وأكراد وأتراك وأوزبك وشيشانيون وأوستراليون». ويكشف هؤلاء أن الأمور الاجتماعية للمناطق الخاضعة لسيطرتهم، من شرطة الحسبة وولاية المنطقة الأمنية وشؤون مالية العشائر ومكتب المقاتلين، تخضع سلطتها للعناصر العراقيين. أما الأمور العسكرية التي تتعلق بـ«جيش الدولة» فهي بيد العناصر الأجانب.

التفليش يعني تدمير
المنزل بعد مصادرة محتوياته عقاباً لعائلة المرتد الهارب


«يوهمون الناس بأنهم يتنصّتون على الاتصالات الهاتفية. وبين حين وآخر، يُعدمون شخصاً بتهمة التخابر مع المرتدين أو العدو»، يقول أحد الناجين، ليضيف: «جابوا منظومة روسية يتنصّتون من خلالها على اتصالات الموبايل. هيك سمعنا من الحسبة». وهنا يجزم أحد المحققين من «الحشد الشعبي» بأن «كل ذلك غير صحيح وهو مستحيل عليهم، إنما يروجونه لبثّ الرعب وشائعات لترهيب الناس».

لماذا هربت ولم تنتسب إلى «الدولة»؟

زرعت مذبحة «سبايكر» الرعب في النفوس. المجزرة التي أعدم فيها التنظيم قرابة ١٧٠٠ جندي وألقاهم في نهر دجلة في حزيران ٢٠١٤، شكّلت انعطافة لدى كثيرين، فانقلبت المفاهيم لتتكشّف هُويّة التنظيم الحقيقية. يقول أبو علي الذي عمل سائقاً عمومياً على عهد «داعش»: «كنت متعاطفاً مع داعش في البدء، لكن تركتها بعدما اكتشفت أنّها مزيّفة. كيف يُعقل أن لا آمن على نفسي في بيتي وأرضي». يَسأل، هل يُطبّقون الدين؟ فيجيب «الدين سماحة... هل قال الدين أن تأخذ ٦٠ ألف دينار كغرامة لمن يزيّن ذقنه... هل يجوز أن يُسجن زوج امرأة خرجت بلا محرم ثم يُجلد أو تُجلد المرأة التي لا ترتدي نقاباً مع محرمها»... فضلاً عن «البيعة». هذه المسألة التي يختلف فيها الهاربون من «جحيم داعش». يقول أحدهم إن عناصر التنظيم «لا يُجبرون أحد على البيعة» وإنّه لم يُبايع، فيما يردّ آخر بأنّهم «يجبرون الناس على زيارة المسجد. وفي المسجد، يُجددون البيعة أسبوعياً». وصيغتها واحدة يُرددها الحضور خلف إمام المسجد.

حكاية الهروب

مرّت سنة وأربعة أشهر على سقوط المكحول والقرى المحيطة بها في قبضة تنظيم «الدولة الإسلامية»، لكن الكيل قد طفح لدى كثيرين مغلوب على أمرهم. فتزايدت في الأشهر الأخيرة، أعداد العائلات الهاربة من «أرض الخلافة». إذ يهرب هؤلاء ثم يسلّمون أنفسهم للحشد الشعبي. هنا مجموعة مؤلفة من سبعة رجال وخمس نساء وستة أطفال، معظمهم من قرية النمل التابعة لقضاء بيجي، مسقط رأس قائد الشرطة في محافظة صلاح الدين، شدّوا رحالهم قبل عيد الأضحى بيوم واحد. يذكر أحدهم أن غالبيتهم انتقلوا من قرية مصباح ومنها إلى الزاب ثم بلدة شميط، فيما عبر الباقون من الزويّة إلى بلدة الزاب ومن هناك، بدأوا يستقلون واحداً تلو الآخر سيارة تاكسي لتقلهم إلى إحدى النقاط المتّفق عليها حيث اجتمعوا مجدداً. ومن هناك، صعدوا في «بيك آب» مرتدين زيّ فلّاحين ويحملون عدتهم. يروي مزهر إبراهيم الذي كان ضمن هذه المجموعة: «من هناك وصلنا إلى قرية دربان. ومشينا سيراً على الأقدام على الجبل من الساعة ٧:٣٠ مساءً حتى العاشرة صباحاً. بهدلة وعطش. نفدت منّا المياه حتى وصلنا إلى قرية الربيضة. كنا قبلها قد وصلنا إلى جبل إمرين حيث تمكنا من إجراء اتصال، وما إن وصلنا حتى سلمنا أنفسنا لمركز الشرطة حيث كان معارفنا في انتظارنا».
يروي هؤلاء قصة فرارهم كأنّها رحلة من الموت إلى الحياة. يستذكرونها كأنها كابوس كانوا يعيشونها ثم انتبهوا. لا يتوقف هؤلاء عن شكر الحشد الشعبي. وما إن تسأل أحدهم: ماذا ستفعل الآن وكيف ستبدأ حياتك مجدداً؟ يُجيب: «أُريد أن أقاتل معكم في الصف الأول».




نساؤهم سبايا وأولادهم عبيد

في محادثة عبر «السكايب» مع أحد «الجهاديين» السوريين الذين قاتلوا في عرسال ثم انتقل إلى حمص قبل أن يُقرر الاستقرار في الرقة وينتقل منها لاحقاً إلى الموصل العراقية، يتحدّث القيادي الذي بايع تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد تركه «جبهة النصرة»، «أبو القاسم السوري» لـ «الأخبار» عن شروط العيش في كنف «الدولة الإسلامية». وينفي الشاب الثلاثيني ما يتردد عن تعرض المسلمين للاضطهاد ضمن حدود «أرض الخلافة». ولدى الاستفسار عن مفهوم المسلم في عرفهم، يرد: «إذا كان شعب الموصل على الإسلام، وجاءت الدولة الإسلامية وسيطرت على شعب الموصل وكان يكره دولة الإسلام، أي لا يُريد الخضوع لسيطرتنا وأحكامنا... في هذه الحالة، من لا يخضع لحكم الدولة بإمامة أمير المؤمنين، فإنه إما يُحبس حتى يفهم الخطأ الذي وقع به ويعود عن رأيه، أو يُحارب فئة باغية مثل جبهة النصرة حتى يعود إلى أمره، وإن لم يعد يكون قد قتلوه أو هرب. وإن اعتبرنا أن هذا الرجل الذي عصا أوامر الدولة الإسلامية ولم يُرِد الخضوع لأحكامها، هرب وترك أولاده، فالدولة التي قاتلته قتال باغٍ لا تقترب منهم أبداً إطلاقاً. أما إذا كان الشخص شيعي فتُقتل زوجته ويُقتل كل ولد بالغ. أما من لم يبلغ منهم، فهؤلاء يعود أمرهم إلى أمير المؤمنين أو الوالي. فإما أن يأمر بقتلهم أو نفيهم أو استرقاقهم، أي أخذهم عبيداً. وهذا الحكم مختص بالشيعة والعلويين والمراشدة من غير المسيحيين واليهود. وأما إذا كانوا مسيحيين أو يهود، يمكن أن تؤخذ نساؤهم سبايا وأولادهم عبيد. والأحكام تستمد عندنا من مجموع فتاوى ابن تيمية وابن القيم الجوزية ومن كتب الحنابلة والأحناف والشافعية والمالكية. هي الكتب الرئيسية، إضافة إلى كتب الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولا سيما كتابا التوحيد ونواقض الإسلام».