الفراغ واليأس يسيطران على مصر. هذا ما تنبئ به قوائم الترشيح للرئاسة المصرية. قوائم تحمل أسماء بلا برامج، يريد أصحابها الهرب من «قدر» جمال مبارك بأي شكل كان، في وقت يتخبّط فيه «الإخوان» بدوامة صراع داخلي يكشف نجاح الرئيس في قتل النظام السياسي
وائل عبد الفتاح

أشواق البحث عن بديل رئاسي


عمرو موسى يوحي بأنه سيترشح للرئاسة. خبر وحملة على «فيس بوك»، توازت معها حملة من أجل ترشيح محمد البرادعي، الرئيس المنتهية ولايته للوكالة الدولية للطاقة الذرية. أشواق البحث عن بديل حطت أيضاً على أحمد زويل، العالم المصري الفائز بجائزة نوبل.
أسماء كلها تلمع الآن في سماء ترشيحات تعبر عن أمل اليائسين. تتعلق بأطياف شخصيات لها صلابة ما. لها رصيد شعبوي وأداء محترم نجح في منظمات عالمية. الأسماء تمثل قيماً غائبة (الشفافية أو الاحترام أو الجدية أو الإخلاص أو الترفع عن المكاسب الصغيرة)، أكثر من تمثيلها لحضور سياسي. أشواق وعواطف، لا فعل سياسي يغير المجال العام أو يقدم مشروعاً قابلاً للنجاح. إنها رغبة خجولة للمشاركة بتقديم بدلاء بدلاً من فكرة البديل الوحيد. كل هؤلاء ليسوا بدلاء حسني مبارك، بل بدلاء جمال مبارك. مبارك الأب لعب لعبته السياسية التي ستسجل باسمه في التاريخ. لعبة أفرغت البلد من أي صلابة، ووضعته في حالة «بين... بين». لا هي سيولة كاملة ولا مكان لصلابة ما. حالة غابت معها نوعيّة من الأشخاص يستطيعون القيام بأدوار عامة.
في كل العصور السياسية لمصر الحديثة وجدت «الشخصية العامة» التي تلعب دوراً سياسيّاً وتمثل قيماً وأفكاراً موجودة. ليست الزعيم أو الأب ولا النبي المنتظر. هي السياسي بمعناه الحديث، الذي ظهر قبل ثورة تموز مع أشخاص قاموا بأدوار لم تكن كلها لخدمة القضية الوطنية، ولكنها لصنع «مجال عام».
هذا «المجال العام» يعني في البداية أن مصير وسياسات البلد ليست ملكاً للحاكم أو لنظام يحدد ما يراه باعتباره صاحب البلد أو مالكها الأبدي. في المجال العام ينمو المجتمع المدني كقوة موازية لقوة السلطة في معادلة الحكم.
هكذا، فإن المجتمع الذي كان قوياً قبل الثورة أعطى توكيلاً لضباط الثورة ولزعيمهم الكاريزمي جمال عبد الناصر، ومن يومها يتناقل التوكيل بين ورثة، آخرهم حسني مبارك.
لكن مبارك ليس عبد الناصر ولا أنور السادات. إنه الموجة الثالثة من الحكام العسكر. موجة الموظفين المهرة في ألعاب البيروقراطية. من هنا، لم يعد الاستبداد بالكاريزما الملهمة للزعيم، بل بخبرة الموظفين في الإغراق بالقوانين. استبداد بالقانون؛ تقول السلطة سنسمح بتعدد الأحزاب، ثم تقرّ قانون الأحزاب الذي يلغي فكرة «الحزب» فعلياً ويبقي كيانات كرتونية بلا عمل ولا وظيفة إلا للوكلاء الذين حصلوا على تصريح من النظام بإدارة الدكان السياسي، على أن يظل بلا فعالية. والنتيجة مصر تبحث عن مرشح يخوض الانتخابات في مواجهة الرئيس أو ابنه. الطموح أكبر من الإمكانات: رئيس جديد ومن خارج النظام. لكن المشكلة أن قائمة المرشحين أخلاقية أكثر منها سياسية. أسماء تبدو الرئاسة مكافأة بالنسبة إليها، وليست مشروعاً سياسيّاً ولهذا جمعها محمد حسنين هيكل ضمن مشروع مجلس أمناء الدولة والدستور يدير الدولة في فترة انتقالية (3 سنوات) بموافقة مبارك.
مشروع قديم أضاف إليه هيكل أسماء المرشحين، الذين يثبتون أن مصر ليست فارغة وينهون أسطورة أنه لا بديل عن جمال. الاقتراح وصية من رجل دولة التحرر الوطني إلى آخر ورثتها.
«طالما القلب ينبض»، هذا هو خط النهاية الذي وضعه الرئيس مبارك لعلاقته بالحكم. خط مربك للجميع لأنه يضع البيولوجي في مواجهة السياسي. وهذا سر عواصف القلق والرعب من المستقبل السياسي. مصر تبحث عن رئيس. ولا تعرف، للمرة الأولى في تاريخها، من سيكون الرئيس. مبارك نفسه لا يعلم. في دوراته الخمس السابقة كانت الجمهورية جمهوريته. هو وريث الجنرالات القدامى. يختار كل منهم ولي عهد يصعد بعد الموت إلى كرسي الخلافة.
هذه الخلافة انتهى عهدها على يد مبارك، الذي غيّر قواعد اختيار الرئيس، لتكون المنافسة المفتوحة بدلاً من اختيارات الكهنة. لكن التعديلات نفسها أغلقت أبواب المنافسة أو تركت منها فتحة ضيقة تعبر منها العواطف الى اسم من خارج العائلة الحاكمة.
عمرو موسى ابن النظام، لكنه في صورة ساهمت في صناعتها أغنية شعبية. «مختلف» أو «آخر الرجال المحترمين» في النظام. صورة مثيرة للجدل والاختلاف. يرى فيها البعض الجزء المنتمي إلى النظام ميزة، ويراها البعض مجرد مهارات المعرفة بخطابات الاستعراض. لكنه مدني، ومن مدرسة «الدولة القديمة»، وتكونت له خبرات خارج النظام في الجامعة العربية. هذه مميزات يُرد عليها فوراً: عمرو موسى هو عمرو موسى، حنجرة ولا فعالية.
لماذا إذاً لعبت في رأسه فكرة الترشيح؟ النميمة تقول الكثير (منها نهاية عهده بالجامعة وغيرته من شعبية البرادعي، ومنها أنه يريد إنهاء الخدمة باستعراض مناسب).
الأحزاب التي عرضت ترشيح موسى (الناصري والجبهة الديموقراطية) أعلنت موافقتها بمنطق عجيب «أن يكون محط إجماع وتوافق عام من النخبة». حتى هذه الأحزاب البعيدة عن السلطة لا تريد التجربة. لا تريد الرحلة. تريد ضمان الوصول إلى قصر الرئاسة.
عقلية أسيرة الحزب الواحد والمرشح الواحد، ومرعوبة من الانتخابات. أحزاب لا تدرك أنها تولد بالحراك السياسي لا بالتوافق أو الإجماع. ولا تدرك أن الأهم هو تغيير قواعد اللعب لا اختيار لاعب يكون في النهاية مجرد كومبارس متكلم.
الخطير في ما قيل عن ترشيح موسى جاء من صحافي مقرب من الرئيس مبارك، وقام بدور صانع صورته الإعلاميه في الانتخابات الأخيرة. عماد أديب قال أشياء كثيرة تعليقاً على ترشيح موسى، لكنه ألحّ على فكرة «الخروج الآمن للحكام، وضمان عدم محاكمتهم بعد الخروج»، ملمحاً إلى فكرة الانتقام التي سيطرت على حركات الاحتجاج.
الخوف من المحاكمة، نقطة ذكية في تفسير نزعة الخلود على الكرسي حتى الموت. وربما تكون مبادرة من الحزب «خروج مضمون» مقابل بعض الضمانات لانتخابات حرة ومفتوحة. ربما أيضاً تكون فكرة عابرة في سجال سياسي مفتوح من فترة ويتصاعد ولن ينتهي قبل 2011 حول رئيس مصر المقبل.

حرب داخل «الإخوان»



معركة دخول عصام العريان إلى مكتب الإرشاد كانت حاسمة في الانقسام الذي يقترب من «الانشقاق» في «الإخوان». فشل المرشد في تمرير العريان فاعتزل في بيته بعدما ألقى قنبلة استقالة شفوية

الأشباح تطارد مرشد «الإخوان». سيد قطب لا يزال ملهماً لمجموعة تريد السيطرة على مستقبل «الإخوان المسلمين». صقور الدفاع عن «الجماعة» بتركيبتها الكلاسيكية. محمود عزت أشهرهم، قاتل بشراسة لعدم وصول عصام العريان، أشهر الحمائم، إلى مكتب الإرشاد.
حائط القطبيين ليس آخر الأسوار الحديدية. وحسب ما يتسرب الآن من دار الإرشاد في منيل الروضة، فإن خيرت الشاطر، المرشد المنتظر، أرسل ومجموعته وثيقة نقد قاسية لانشغال الجماعة بالتنظيم الداخلي عن بناء كوادرها الجديدة وخطوط تحالفات تقويها في انتخابات البرلمان 2010.
هذه ليست إلا حرب مواقع داخل الجماعة. وهناك تسريبات عن تزوير انتخابات داخلية وارتباكات في الحسابات المالية وفقدان تركيز يبدو أنها من توابع غياب العقل (خيرت الشاطر) في السجن، ومن بعده غياب كاريزما الحمائم مع اعتقال عبد المنعم أبو الفتوح. الحرب ليست جديدة على «الإخوان»، لكنها هذه المرة عاصفة خريف لجماعة قامت على غياب القوى الأخرى، لا على حضورها. الأجهزة الأمنية، بضربها لقيادات الجماعة الكبار، امتصت القوى الحيوية التي كانت تغطي على الخلافات الداخلية.
هي مرحلة طحن الجماعة وإعادتها الى مرحلة لم تشهدها من قبل، وخصوصاً مع انتشار الشيخوخة انتشاراً سرطانياً وتعتيق الأداء السياسي إلى درجة أثارت «رياح غضب» من شباب الجماعة.
عندما انتقل خبر استقالة المرشد من حجرات مكتب الإرشاد إلى وسائل الإعلام أنكر الجميع، بمن فيهم المرشد، الاستقالة، واعتبروها فبركة صحافية وأمنية. المرشد انتقد اهتمام الصحف بالشأن الداخلي للجماعة، وهو ما يتّسق مع تقاليد العمل السري تماماً.
إنه اللعب بين مساحة السري والعلني. الجماعة لا تزال على الجسر بين الحظر الرسمي والعمل العام، بين كونها جماعة دعوة وتنظيم سياسي بين الحلم بالسلطة والإعلان عن عدم المنافسة عليها تجنباً لصدام مع الدولة.
الجماعة ارتضت بوجودها الافتراضي في الحياة السياسية. والنظام أحب اللعب مع «الإخوان» باعتبارها جماعة محظورة يتركها تحتل الأرض عندما يريد، وعندما ينزعج من وجودها يضربها بسهولة. مأزق قابل للانشطار الآن وقبل انتخابات البرلمان التي يريدها الحزب الوطني الحاكم تحت السيطرة الكاملة. الجماعة لا تبحث عن مرشد. فالمستقبل غالباً للنائب الثاني محمد حبيب، لكنها تبحث عن تأسيس جديد أو الدخول في نفق سارت فيه كل أحزاب التوتاليتارية الدينية وانتظرت في عتمته المجهولة.

عقليّة الفضائح


الخبر كان مدهشاً إلى درجة لم تجعل أحداً يفكر في اسم وكالة الأنباء التي قال «ميزو» إنه نقل الخبر عنها. إنها سخرية «ميزو»، الاسم المستعار لأحد رواد المنتديات الرياضية على شبكة الإنترنت. سخرية كاشفة لغريزة تلعب وحدها من دون عقل. وصيد الخبر مهمة الكسول الذي لم يفكر لحظة في صدقية الخبر. الصيّادون الكسالى منتشرون في صحف وفضائيّات نقلت كلها عن «ميزو» خبر صلاة ساركوزي من أجل فوز منتخب مصر في المباراة الفاصلة مع الجزائر لأن «الجزائريين سيدمرون باريس إذا فازوا». نقلت الفضائيات والصحف الخبر من دون تفكير ليظهر «ميزو» متعجباً: «كيف تصدقون الخبر... كنت ألعب. ولم أتخيّل فقط أن هذه اللعبة يمكن لأحد عاقل أن يأخذها على محمل الجد».
الغريزة من دون عقل تداعب رغبة الكشف عن مستور بعيد. من هنا تروّج الفضيحة كبضاعة منتظرة ومرغوبة، على غرار «فضيحة» شبكة النجوم المثليّين. الخبر صدمة بالنسبة إلى جمهور محافظ، ولا سيما أن بين النجوم نور الشريف، رمز الفحولة العربية في «الحاج متولي» متعدد الزوجات والثروات.
لم تخفت الفضيحة إلا بفضيحة أخرى محورها هذه المرة مكالمة الكابتن أحمد شوبير والتوظيف المتبادل للصحافيات في معركته مع المستشار مرتضى منصور. المكالمة شخصية مشحونة بالشتائم والتلميحات والاستعراضات الجنسية، وهذا ما دفعها إلى قائمة الأكثر استماعاً على موقع «يو تيوب».
استعراضات كاملة، تشبه نجومها تقريباً، حيث الجهل نشيط وقوي ويصل الآن إلى مرحلة الفخر. غوغاء أصواتهم عالية وقضاياهم سهلة وحكاياتهم مسلية. يشغل الغوغاء فراغاً لا مكان فيه لنقاش جاد حول مستقبل مصر السياسي. ويبدو منطق الفضيحة رائجاً وشعبياً، فكل شخص مهم يرفع حوله سياجاً كبيراً يقيم خلفه حياة كاملة بعيداً عن الأنظار. أصبحت الثروة حجاباً يستر صاحبها من أعين المتلصصين. ولأنها ثروة مشكوك في مصدرها، فإنها تعتبر من وجهة نظر العامة خارج الأسوار العالية «حرام».
لهذا يتشفى الناس في صاحب الفضيحة تعويضاً عن موقف سياسي غير مسموح بالتعبير عنه. فالكلام في الفضيحة الجنسية لا يدخل في قائمة الممنوعات، بينما الاقتراب من حقائق الفساد السياسي والاقتصادي يجلب على صاحبه المتاعب (وربما المصائب). وهكذا مع كل فضيحة يزداد المجتمع تعلقاً بالجانب الأخلاقي المحافظ كرد فعل على فساد النخبة. يقتات المجتمع المحروم من التعبير عن نفسه على الفضائح. وتتداخل الأخلاق مع السياسة إلى درجة يعدّ فيها التزمت والانغلاق قمة التعبير عن المعارضة السياسية. فلا نختلف مع الوزير أو المسؤول لأنه فاسد، بل لأنه «بطل» في المغامرات الجنسية.