حصار، حصار، حصار. كل شيء بات حصاراً حقيقياً يراد منه إعادة تشكيل الهوية الإنسانية للبشر.هذا الحصار الذي أعنيه، هو ما يتعلق بالأفكار، واعتقاد بعض الأشخاص لِسَمةٍ ما مرتبطة به، أن له السلطة، كون كلامه حقاً يراد به حق، وما هو إلا باطل يراد به باطل.
وأعني تماماً ذلك "الرأي" المتخلف الذي يرفض مشاركة الفتيات بأعمال الهبّة الشعبية الفلسطينية في وجه الاحتلال، و"الرأي" المتنكر بلبوس القانون، والذي يرفض استخدام السكين بوجه مستوطنين "مدنيين"، والرأي الثالث الجاهل الذي يقارن إسرائيل ببعض الأنظمة العربية، فتكون النتيجة لدى جمهور هؤلاء، بأن الاحتلال أخلاقي وإنساني.
أي فجور هذا الذي وصلنا إليه! أي ضلال وأي جهل بالحقوق وموازينها والثورات وقواعدها. العدو كلمة واضحة تشير إلى إسرائيل ونقطة، إضافة لمن والاها كان من كان.
اليوم يريدون أن تكون الخيانة وجهة نظر! يخرج علينا شيخ، و"مواطن" في فلسطين يتفتق "عقله" عن أفكار من نوع أن الرجولة قد سقطت، وان مشاركة بنات في مواجهة الاحتلال... عار على الفلسطينيين! قرأت ذلك على صفحته على الفايسبوك، فكنت كأني أقرأ مشهداً في مسلسل "باب الحارة"، أي عار هذا الذي يتحدث عنه؟ طبعاً الرد على هذا الشيخ جاهز من "بضاعته"، بالإشارة إلى نساء مسلمات شاركن في معارك عدة ومنهن من ذاع صيتهن وبتنَ مضرباً للمثل.

أما الأمثلة القريبة ومن قاموسنا الفلسطيني كالمناضلة دلال المغربي وليلى خالد وسهى بشارة ولولا عبود وسناء محيدلي... فهل تنفع معه؟
وهناك من يرى أننا كفلسطينيين علينا ألّا نستهدف المدنيين! وحين يقال "مدنيين" ويكون القتلى من المستوطنين فهل هم فعلاً مدنيون؟ إذا كان السلاح متوفراً لكل مستوطن متى شاء، وإذا كان المستوطن ـ في القدس مثله في حيفا مثله في الضفة ـ يشارك الشرطة أو الجيش في مهاجمة الفلسطينيين أو بالعكس، تواكبه الشرطة في احتلاله لبيوت المقدسيين وفي اقتحام الأقصى ويغطى على جرائمهم في القضاء لو... أقول لو وصلت قضية ما إلى المحكمة! كيف يمكن أن نسمي هذا أو ذاك مدنياً؟ والأهم من كل هذا الكلام المنمق أن "القصة من الآخر" أنهم جميعهم يحتلون أرضنا. هم سبب شتاتنا وهم السبب في أعداد الشهداء الكثر، والأسرى، واليتامى، والأرامل، والمفقودين... هم أي "المدنيون" العسكريون من الاحتلال. والطفل أحمد المناصرة الذي انتشر فيديو إطلاق النار عليه وتركه ينزف، وإطلاق الشتائم عليه "موت يا من...، موت يا ابن الشر..." لم يكن من عسكري أو شرطي، كان مِنْ مَنْ يصطلح البعض على تسميته بالمدني، أي المستوطن.
أما بعض "المثقفين" الذين ينظرون إلى فكرة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي ودولته، هو جيش إنساني وأخلاقي، مقارنة بجيوش عربية لا تمتلك الأخلاق ولا الإنسانية كونها تقتل المدنيين بشتى أنواع الأسلحة، فالعفو! وهل، إن صحت المقارنة، فعلت إسرائيل غير ذلك؟ ألم يهجّرنا الصهاينة من أرضنا، ويذبحونا ويعذبونا ويعتدوا على إنسانيتنا؟ أليست إسرائيلكم "الإنسانية" هي من أشرفت ونفذت مجزرة صبرا وشاتيلا و"قانا"، وسابقاً "دير ياسين" و"كفر قاسم" وآلاف المجازر التي يندى جبين أيّ بني آدم لمجرد تعدادها؟ في العام الماضي، من قتل أكثر من 2400 مدني في قطاع غزة؟ (ربما كانت أمي قتلتهم!). واليوم؟ من يعدم المدنيين في فلسطين ميدانياً؟ أليست إسرائيلكم؟ صحيح أن ما يحدث في بعض الدول العربية مهين وغير مقبول، لكن المقارنة مع إسرائيل، المجرم المطلق، هي غير الأخلاقي وغير الصحيح، والمرفوض. المجرم مجرم، مهما حاولتم تخفيف وقع جرائمه بمقارنته بغيره من المجرمين. يبقى هو القاتل ومرتكب الخطيئة الأساسية المستمرة والمتفاقمة بمحاولة ارتكاب تطهير عرقي لشعب سبق أن احتل أرضه بوقاحة مغطاة من دول تتشدّق بالإنسانية والعدل والحقوق وحماية "المدنيين" وفض النزاعات بالحوار.
هذا الحصار، يستمر منذ سنوات، بمساهمة حركات "إسلامية" صنع المخابرات الغربية تحاول تسميم فكرة الإسلام بالقول إن الله لم يأمرنا بقتال اليهود! إذاً حرام أن نقاتلهم رغم أنهم يحتلون أرضنا ويقتلون مدنيينا كل يوم ويصادرون البيوت من أهلها في عتمة الليل وبمواكبة قوانينهم للمسنونة خصوصاً لاتهام القدس وباقي فلسطين... رغم أنهم، يهدمون ثاني القبلتين ويدنسون الأقصى!
لا خلاف أن الدول العربية لم تفعل أي شيء لفلسطين، وفي هذا لوحده فعل عدواني. فلسطين لديها مهمة واحدة في تلك الدول: في صندوق "الانتخابات"، أو لتخدير الشعوب واستمالتها (كما يفعل أردوغان).
أما السلطة الفلسطينية، فلم يعد هناك من قول يقال حولها. فخطاب رئيسها محمود عباس الأخير، جيد، ولكنه غير كافٍ، ولم يستطع اللحاق بما وصل إليه كفاح الشباب بحراكهم، وهو حراك على ما يبدو سيغير الكثير من الوقائع، وسيفرض كما هو مطلوب، مفهوماً جديداً للصراع.
لذا فمصير عباس سيكون تماماً كمصير حصارات أفكار السذج المذكورين آنفاً، إلى زوال. وإن غضبنا الآن منهم إلا أن من سيقرأ التاريخ لن يصنّف تلك الأفكار إلا هراء مطعّم ببعض "الهبل".