محمد زبيبصبيحة أمس، قرّر مسؤول ما، أن يختبر قدرته على ممارسة أقصى أشكال السادية، فأوعز بإقفال الطريق من بيت الكتائب في الصيفي باتجاه برج الغزال ـــــ جسر فؤاد شهاب، في ذروة ازدحام حركة السير على مدخل بيروت الشمالي، فعلقت مئات السيارات في هذا الفخ المنصوب عن سابق تصوّر وتصميم، وامتدت طابوراً متراصّاً من جسر الدورة الجديد حتى فندق الهوليداي إن الشهيد... فإذا بالمسافة التي يحتاج السائق لقطعها إلى أقل من 5 دقائق في الأيام العادية، استطالت لتستغرق أكثر من 45 دقيقة.
طبعاً، في بلاد العالم هناك كلفة كبيرة تترتّب على ذلك، لكن لا أحد في لبنان يريد احتسابها. ليس هناك من يشعر بأنه مضطر لإجراء مثل هذا الحساب، فالناس اعتادوا الخنوع، بل باتوا يجدون متعة فيه... والمعادلة التي ارتضاها الجميع قضت بتحوّل اللبنانيين إلى مازوشيين، ما دام خياراً أسهل من ممانعة رغبات الساديين... هكذا، صار الاستثناء قاعدة ثابتة مقبولة، وصارت الحالة المرضية طبيعية جداً وأكثر، صارت شرطاً للبقاء!
تنقطع الكهرباء، فتدور المولّدات، تُقنّن المياه فتنشط قاطرات الصهاريج، تزدحم الطرقات فيتلهى السائقون بمحادثات مكلفة جداً على هواتفهم الخلوية... وهكذا دواليك. إنه فنّ ليس بوسع كل البشر التمتع به. الأمر يحتاج إلى موهبة مصقولة على مدى عقود وعقود من الزمن.
***
لقد أُقفل الطريق المذكور في هذا الوقت بذريعة تنفيذ بعض أشغال الصيانة عليه، كان يمكن أن يتم الأمر ليلاً أو فجراً أو في يوم عطلة، لو لم تكن فيه رغبة ساديّة. على أي حال، لم يكن في موقع الأشغال أي أشغال، ما عدا بعض الآليات المتوقّفة، وعاملاً وحيداً ظاهراً يتولى الإشراف على قطع الطريق ومنع السيارات من المرور، ولافتة تقول: «انتبه أشغال... نأسف لإزعاجكم».
لا شك في أن المسؤول الساديّ كان يقف على شرفة شقته في الوسط، أو جواره، يطلّ من طابقه العالي على عالم سفلي أسهم بخلقه، يراقب بشغف وتلذّذ وانتشاء فرائسه المطيعة التي تعبر من تحته من دون أي تعبير عن غضب أو احتجاج أو شكوى... شقّة الوسط تفصيل مهم في هذا المشهد الصباحي. إنها التعبير عن الساديّة الكاملة المعلنة، فالسرقات والرشى والعمولات والإتاوات والخوّات والاحتكارات والمضاربات والمصادرات والمخالفات... كلها تصنع الثروة، لكنها لا توصل إلى النشوة. ما يوصل إليها هو الإقامة على حقوق الآخرين وعذاباتهم وأحلامهم المسلوبة.
***
كل شيء في لبنان يُشبه ما يحصل في موقع الأشغال المذكور ومحيطه، لقد نجح الإعلام في إقناع من يتوجّه إليهم بأن «الاختناق» مرادف للازدهار... «العجقة» تكفي لإعلان أن «الشغل ماشي»، وهذا ما يروّج له الكثيرون من رئيس حكومة تصريف الأعمال فؤاد السنيورة إلى رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، مروراً بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ووزير المال محمد شطح وحفنة من منتحلي صفة «الخبراء الاقتصاديين». هؤلاء ما انفكّوا يزوّدون وسائل الإعلام والصحافة مقابلات وبيانات وتصريحات وخطابات ومقالات عن لبنان ـــــ الاستثناء في هذا العالم، الذي نجح باستقطاب ودائع جديدة بقيمة 16 مليار دولار في سنة واحدة.
***
يا لطيف، أصبحت الودائع الخاصة المتراكمة لدى المصارف اللبنانية تمثّل أكثر من 300% من مجمل الناتج المحلي. ألا يعني ذلك شيئاً؟ ألا يشير إلى مشكلة كبيرة؟ إن جزءاً مهمّاً من زيادة الودائع نجم عن التمويل السياسي الخارجي المخصص للانتخابات النيابية والمسدَّد أجرةً للأتباع المحليين. وجزء آخر جاء للاستفادة من فارق سعر الفائدة في لبنان بالمقارنة مع الخارج (وهو فارق كبير بالمناسبة يصل إلى حدّ الجريمة). وجزء ثالث بسيط جاء هرباً من مخاطر الأزمة التي تهدد بعض المصارف في الخليج... أين المعجزة هنا؟ وأين هو الإنجاز الذي يستحق كل هذا التهليل والتصفيق والتزمير؟
نجح الإعلام في إقناع من يتوجّه إليهم بأن «الاختناق» مرادف للازدهار
ليس هناك فرق جوهري بين زحمة السير أمس على مدخل بيروت الشمالي وتدفق الودائع على المصارف، ففي الحالتين ليس هناك أي شغل في مقابل الأكلاف الباهظة المترتبة عليهما... ليس هناك سوى «عجقة» يفتعلها ساديّ ويتلقاها مازوشي بتقدير لا يوصف... فكلفة هذه الودائع الجديدة تتجاوز 500 مليون دولار، وليس هناك أي مجال متاح لإعادة توظيفها إلا في أدوات السياسة النقدية وأدوات الدين العام، إذ اضطرت السلطتان المالية والنقدية إلى امتصاص آلاف مليارات الليرات ومئات ملايين الدولارات من صناديق المصارف وفرضت على كل اللبنانيين (كالعادة) تحمّل الكلفة المباشرة وغير المباشرة من دون أن يكون هناك حاجة فعلية لاجتذاب كل هذه التدفقات، أو بالأحرى من دون أن يكون هناك برنامج لتوظيف الدين الجديد في زيادة الأصول وتحسين البنية التحتية وتوفير فرص العمل وتنمية القطاعات الإنتاجية والمناطق المحرومة وحماية الفئات الاجتماعية الضعيفة... فدافعو الضرائب والرسوم يسددون أموالاً طائلة لخدمة دين يوفّر معدّلات ربحية مقبولة للمصارف من دون أن ينالوا هم في المقابل أي خدمات أو تقديمات أو تحسينات في مستوى عيشهم. وتكفي الإشارة هنا إلى الفائض الأولي الإجمالي (الإيرادات ناقص النفقات من دون خدمة الدين العام) الذي تحقق حتى أيلول الماضي، البالغ نحو 1045 مليار ليرة (أي نحو 8.17% من مجمل مجموع النفقات)، وهذا الفائض الذي يتباهى به الساديون ويهلّل له المازوشيون هو الفارق بين ما سدده المقيمون من أموال للحكومة وما أنفقته الحكومة بما فيها مزارب الهدر والسرقة والفساد. كذلك تكفي الإشارة إلى أن حساب الخزينة العامّة لدى مصرف لبنان تتراكم فيه حالياً أكثر من 2500 مليار ليرة تُسدّد الفوائد عليها من دون استخدامها إلا في إطار امتصاص سيولة فائضة لا حاجة فعلية لها في ظل الظروف القائمة.
***
بعد امتصاص أكثر من 8 مليارات دولار عبر وزارة المال ومصرف لبنان، تقدّر السيولة المتاحة للتوظيف الآن لدى المصارف اللبنانية بنحو 15.6 مليار دولار، أي ما يمثّل 50% من مجمل الناتج المحلي، ولا طلب في المقابل على تسهيلات مصرفية من القطاع الخاص والأسر يوازي حجم هذه السيولة الفائضة، وذلك نتيجة ضعف الاقتصاد وتراجع القدرات الشرائية، ما يعني أن المصارف ستواجه خسائر أو تراجعاً ملحوظاً في الأرباح، أو ستزيد السلطات المعنية كعادتها (وهذا هو المرجّح) المديونية العامّة بحجج مختلفة وستحمّل اللبنانيين كلفة إضافية باهظة لامتصاص ودائع لم يكن هناك حاجة لتدفقها والمحافظة على معدّلات ربحية مقبولة للمصارف.
أليس هذا صنفاً من صنوف الساديّة، ولا سيما أن البهجة ترافق كل دولار جديد يدخل إلى المصارف، فيما الاقتصاد الحقيقي يلفظ أنفاسه الأخيرة؟