تمرّد وظيفي و«أمور» مشبوهة ومسّ بمصالح الناس والخزينةقرر وزير الاتصالات جبران باسيل الادعاء لدى القضاء الجزائي على «موظف أو أكثر في وزارة الاتصالات». اللافت في هذا الخبر هو نوعية الأشخاص المدّعى عليهم ومواقعهم الوظيفية، إذ على رأس المتهَمين المدير العام لهيئة أوجيرو والمدير العام للصيانة والاستثمار في وزارة الاتصالات عبد المنعم يوسف الذي اعتاد أن تُثار الغبار من حوله بين الحين والآخر. والتُّهم اختصرها باسيل بعبارات مثل: «تمرد» و«عرقلة» و«غطاء سياسي» و«مزاجية» و«ابتزاز الموظفين بلقمة عيشهم». وقد حاول باسيل أن يعبّر من خلال هذه العبارات عن ضخامة الأفعال التي يشكوها، وارتداداتها على ملفات كثيرة في الوزارة تعاني برأيه التأخير المقصود والمماطلة، ولا سيما خدمة الإنترنت السريع، ومراكز الاتصال (call centers) والتخابر الدولي غير الشرعي وتوزيع خطوط السعات الدولية E1.
يقول باسيل إنه سيفتح هذه الملفات تباعاً، وأعلن في مؤتمر صحافي عقده أمس إحالة أول هذه الملفات على القضاء الجزائي، إذ يتهم يوسف ومن يظهره التحقيق بعرقلة عمل الـ«call centers»، وهذه الخدمة انطلقت في تشرين الثاني 2008، بعد قرار اتُّخذ في مجلس الوزراء، وهي عبارة عن شركة لبنانية أو شركة أجنبية تفتح مركزاً لها في لبنان وتوظف لبنانيين، وتتلقى اتصالات من زبائن منتشرين في دول أخرى للحصول على خدمات معينة، على أن تستحصل الشركات على الرخص بمجرد استيفائها الشروط المطلوبة، وحُدِّدت مهلة 15 يوماً، من بعدها تصبح الإدارة ملزمة بإبلاغ الشركة موافقتها على طلب الترخيص أو عدمه.

تحدي قرارات حكومية!

ويشرح باسيل أنه في الأشهر الثلاثة الأولى لانطلاق الخدمة، وقّعت الوزارة اتفاقات مع 15 شركة لتقديم خدمة الـ«call center»، وعندما أنهت الشركات المرخص لها تجهيز مراكزها، أصبحت الوزارة ملزمة بأن تعطيها الخط الدولي التأجيري E1... وهنا بدأت العرقلة، إذ احتُجزت معظم الطلبات في إدارة الاستثمار والصيانة، بحجة إعادة دراستها، فيما رفضت طلبات أخرى لأسباب تتعلق بعدم استساغة الإدارة شكل غلاف الطلب، أو بسبب ورود عبارة «إلى جميع دول العالم» ضمن الطلب.
وبعد تدخلات عديدة مع الإدارة، نجح باسيل في إعطاء شركتين الموافقة على خط E1 في أوائل ايلول 2009، لكن العرقلة عادت من جديد، إذ لم تُعط الإدارة الوصلة المحلية اللازمة لتشغيل الخط الدولي لكلتا الشركتين إلا بعد 40 يوماً. أما خطوط الـ E1 اللازمة لتشغيل خدمة الـ call center، فلم يُفرَج عنها رغم التدخلات المباشرة من باسيل نفسه، ورغم صدور قرارات عن مجلس الوزراء في هذا الشأن!
ويلفت باسيل إلى أن إحدى الشركات كذلك حصلت على الموافقة المبدئية على خط E1 في 24 آذار 2009، واليوم (أمس) وقّعت لها الموافقة، أي بعد 7 أشهر كاملة! وقد أدت العرقلة إلى ابتعاد الشركات عن تقديم طلبات للاستحصال على خدمة Call Center. كذلك، هناك شركات لم تعد تريد متابعة طلبات تقدمت بها سابقاً، في حين أن شركات استحصلت على موافقات، فسخت عقودها مع شركات عالمية، ومنها شركة فسخت عقداً يوفّر 1400 وظيفة!

من التفاوض إلى القضاء

العرقلة في التعاطي مع طلبات الـ call centers، ونفاد كل الأساليب التي من الممكن استخدامها لمنع هذه السلوكيات في الوزارة، انتهىا بلجوء باسيل إلى القضاء الجزائي المختص من خلال الادعاء على موظف أو أكثر في الوزارة وفقاً لأحكام قانون العقوبات، ولا سيما المادة371 التي تنص على أن كل موظف يستعمل سلطته أو نفوذه استعمالاً مباشراً أو غير مباشر، ليعوق أو يؤخّر تطبيق القوانين أو الأنظمة أو تنفيذ أي أمر صادر عن السلطة ذات الصلاحية، يعاقب بالحبس من 3 أشهر إلى سنتين. وتنص المادة 373 على أنه إذا ارتكب الموظف في الإدارات أو المؤسسات العامة دون سبب مشروع إهمالاً في القيام بوظيفته أو لم ينفذ الأوامر القانونية الصادرة إليه عن رئيسه، عوقب بالحبس حتى سنتين وبالغرامة من 200 ألف إلى مليون ليرة، أو بإحدى هاتين العقوبتين. وإذا نجم عن هذا الفعل ضرر بمصالح الإدارات والمؤسسات والبلديات المعنية، تشدد العقوبة وفقاً لنصّ المادة 257، ويمكن أن يحكم عليه بغرامة تعادل قيمة الضرر... ويشرح باسيل أنه لم يلجأ إلى الملاحقة الإدارية لدى الأجهزة التأديبية، لكون الممارسات المفتعلة لم تكن ترتبط بعمل الوزارة الداخلي، بل تمسّ مصالح الناس وأصحاب الحقوق، وبمصالح الخزينة والدولة، وتمسّ بسمعة لبنان عموماً. وقال: «على الموظف مهما علا شأنه أن يدرك أن لا مكان للسياسة في الإدارة، وليس طبيعياً أن يشتكي عند الوزير موظف على موظف أعلى منه لأنه لا يسمح له بإقرار المعاملة، وأنه يتعرض لضغط لمنعه من ذلك». ولفت إلى أنّ في الوزارة تسلسلاً إدارياً، «وبوصفي وزيراً أتوجه إلى المدير العام للاستثمار والصيانة (عبد المنعم يوسف) بكل الإحالات، وهو من يحيلها تباعاً. ليتبين لاحقاً ما إذا كانت هناك مسؤوليات أخرى».

تواطؤ... وترهيب

ويشرح باسيل أن رئيس الحكومة فؤاد السنيورة يتحمّل المسؤولية السياسية في هذا الشأن، وخصوصاً أنه يعقد اجتماعات مع مديرين في الوزارة من دون علم الوزير بمضمون الاجتماع ونتائجه، لافتاً إلى أن ما يحصل في الوزارة منه ما يتعلق بمزاجية شخص، وهناك ما يتعلق بالسياسة، وهناك ما يرتبط بنمط إداري قائم. «لكن هناك الكثير من الأمور المشبوهة. فعلى سبيل المثال يُرفض توقيع عقود مع شركات لمكافحة التخابر الدولي غير الشرعي لأسباب تُظهر الأيام أنها غير صحيحة». وفيما تفرض الإدارة على الشركات أسعاراً خيالية لشراء الـ E1، فإن تغذية السوق بخطوط الـ E1 وبأسعار مقبولة تتيح إقفال محطة الباروك وغيرها، وتضع حداً للتخابر غير الشرعي. ويشير إلى أن التواطؤ مع الشركات غير الشرعية يكون عندما تحجب الدولة أمراً عن السوق، فتنبري جهة ما إلى توفيره بطريقة غير شرعية، تماماً كما كان الأمر يحصل في السوق السوداء في الخلوي.
ويضيف باسيل أنّ هناك مديراً عاماً وموظفين يُخلّون بالقوانين، بتوجيهات واضحة من الوزير. وهؤلاء يستعملون سلطتهم لعرقلة تنفيذ القوانين. ولا يجوز تخويف موظف ما بلقمة عيشه، على طريقة القول إن الوزير ذاهب والمدير باق، لافتاً إلى وجود وثائق وشهادات عن تلكؤ متعمّد وعن إهمال وظيفي متعمد، وصولاً إلى حدّ التمرّد الوظيفي.
وعن ارتباط يوسف بتيار المستقبل، يقول باسيل إن كل شخص يرى أن لديه حماية معينة، «لكني على يقين بأن الرئيس المكلف سعد الحريري، إذا كان يريد أن يُعطي إشارات إيجابية إلى اللبنانيين وإلى المستثمرين، لا يقبل بحصول أمور مماثلة في الإدارة العامة، وأنا متأكد من أنه يمكننا أن نتعاون معاً لوقف شذوذ من هذا النوع».
(الأخبار)