strong>كلفة تسلّم البضاعة وتخليصها تساوي 110% من سعرها!تُرصد المشاكل المتعلّقة بتخليص المعاملات في جميع الدوائر الرسميّة في لبنان تقريباً. والمسألة تعود إلى فقدان المكننة وحاجة الإدارات العامّة إلى إعادة هيكلة... وفي كثير من الأحيان، تكون الاستنسابيّة (أي تحديد ما هو المناسب وفق معايير غير موضوعيّة) قلب تلك المشاكل لمضاعفة العائدات العامّة و... الخاصّة!

حسن شقراني
الفساد الإداري في لبنان ظاهرة معروفة طبعاً، تكرّسها صيغة الحكم ونظام الإدارة الهجين. ويتحوّل هذا الفساد في إدارات معيّنة وحالات معيّنة إلى مشكلة لا تتعلّق بـ«بنية البلاد الطائفيّة وتوازناتها!» فقط، بل بتجاوز المعايير، التي هي بطبيعة الحال قوانين، وهذا ما يحدث في إدارة الجمارك على سبيل المثال، حين تؤدّي «مزاجيّة الموظّف العام» إلى تضييع الوقت وجعل كلفة «تخليص البضاعة» تمثّل 27% من قيمتها الإجماليّة.
أرسل معمل في لبنان في 22 تمّوز الماضي طرداً يحتوي أدوات عرض مختلفة مخصّصة للمجوهرات إلى الأردن. واكتشف العميل في المملكة أنّ الطرد يحتوي على «بعض القطع المكسورة والمتلفة من جرّاء الشحن»، فقرّر إعادة تلك القطع، وهي عبارة عن 17 قطعة مصنوعة من الجفصين وإضافات بلاستيكيّة مخصصة لعرض العقود (الحلي) إضافة إلى ثلاث قطع صغيرة لعرض الحلق والخواتم.
العمليّة كان يُفترض أن تكون سهلة تجري عبر شركة «DHL» الشهيرة التي تعمل في جميع أنحاء العالم. ولكن لدى وصول البضاعة إلى لبنان ومحاولة تخليصها، تبيّن أنّ هناك «خفايا ماليّة وإداريّة» كثيرة ستُكبّد مُستقبِلها عناء الوقت والمال.
قيمة البضاعة المردودة تبلغ، وفقاً لبيان تصفية الرسوم الخاص بها الصادر عن إدارة الجمارك، 600 ألف ليرة وهي تُصنّف بحسب التقويم المنطقي بضاعة غير مخصّصة للاستخدام (بضاعة مرتجعة)، كما أنّ وزنها الإجمالي يساوي بحسب البيان نفسه 18 كيلوغراماً.
ووفقاً لقانون المعاملات الجمركيّة، إذا كانت البضاعة الداخلة إلى الأراضي اللبنانيّة غير تجاريّة وقيمتها دون 3 ملايين ليرة، فإنّ البيان الجمركي غير ضروري، وتدخل البضاعة في إطار عمليّة تسمّى تصفية مباشرة، ولا يدفع المتسلّم هنا أكثر من 20 ألف ليرة. وإذا فاقت قيمة البضاعة المبلغ المذكور، يصبح البيان الجمركي ضرورياً، وهنا تُفرض ضرائب ورسوم تختلف وفقاً لنوعيّة البضاعة وتصنيفها الجمركي.
أمّا إذا كانت البضاعة تجاريّة، فيجب أن يتخطّى سعرها 1.5 مليون ليرة ووزنها 20 كيلوغراماً لكي «تُفرض عليها الرسوم الجمركيّة العادية».
مصلحة مشتركة تبدو واضحة، إذ إنّ إطالة المعاملات تعني إفادة للجميع إلّا المُتسلِّم
وعلى الرغم من هذا الوضوح في المعايير القانونية، فإن البضاعة المذكورة لم تخضع لـ«التصفية السريعة»، وعُدّت بضاعة تجاريّة تنطبق عليها معايير مختلفة كلّياً.
وهكذا قُسّمت البضاعة المعنيّة إلى نوعين: الأوّل قُدّر بـ200 ألف ليرة فُرض عليه رسم نسبته 25%، أي يساوي 50 ألف ليرة، إضافة إلى ضريبة على القيمة المضافة قيمتها 25 ألف ليرة (ضريبة تراكمية على القيمة الأساسيّة وعلى الرسم الجمركي!).
أمّا النوع الثاني فقيمته 400 ألف ليرة فُرض عليه رسم بنسبة 5% أي بقيمة 20 ألف ليرة وضريبة على القيمة المضافة بقيمة 42 ألف ليرة.
وأضيف إلى «الخلطة الجمركيّة» رسم طابع بـ9 آلاف ليرة ورسماً آخر بألف ليرة، ليصبح المبلغ الإجمالي المفروض من قبل الإدارة الجمركيّة 161 ألف ليرة، أي ما يمثّل 26.8% من السعر الأساسي، كلّ ذلك من دون احترام أي أسس قانونيّة.
لماذا أمكن حدوث لذلك؟ «لأنّ هناك استنسابيّة لدى عناصر الضابطة الجمركيّة»، وفقاً لوصف عميل جمركي شرح لـ«الأخبار» كيف تجري عمليّة تخليص البضائع. ولدى سؤاله عن معايير التقويم عندما تكون البضاعة تجاريّة يوضح بالقول: «حتّى لو كان وزن البضاعة ونوعيّتها يحتّمان إعفاءها من البيان الجمركي، يبقى الأمر متعلّقاً بحكم العنصر (الجمركي) المختصّ».
وهذا الواقع هو، بالقول المباشر، يعدّ مخالفة للقانون الذي تمثّله معايير عمل الضابطة الجمركيّة. ولكن لحظة، هناك عوائق إضافيّة أمام «المتسلِّم اللبناني الضعيف» الذي دخل متاهات «النظام».
بعدما انتهت الجمارك من عمليّاتها المعقّدة، اتّضح للمتسلِّم أنّ عليه أن يدفع أيضاً لشركة الشحن «DHL» غرامة بقيمة 60 ألف ليرة، أي ما يمثّل 10% من السعر الأساسي، على الرغم من أنّ البضاعة أُرسلت من الأردن وفقاً لاتفاق «Door to Door» أي من الباب إلى الباب. وفي هذه الحال تكلّف المرسل 294 ألف ليرة (140 ديناراً أردنياً)، أي ما يمثّل 49% من السعر الإجمالي، كي لا يتكبّد المتسلّم أعباءً إضافيّة!
فماذا حدث لتضاف الغرامة بقيمة 60 ألف ليرة؟ «كشّاف الجمارك استنتسب أنّ البضاعة تجاريّة، فقام بإعداد بيان جمركي لتخليصها. وفي هذه الحالة، تصدر شركتنا بيان تسليم (Bon de Livraison)، وهذا الأمر ما كان ليحصل لو أنّ البضاعة صُفّيت مباشرة»، وفقاً لمصدر من شركة «DHL» تحدّث إلى «الأخبار».
موظّف هذه الشركة العالميّة يؤكّد أيضاً أنّ تقويم البضاعة يعود إلى «مزاجيّة الكشّاف» الجمركي. وعندما شرحت له «الأخبار» تفاصيل القضيّة أجاب بأنّ «البضاعة كان يجب أن تمرّ من دون بيان جمركي». لكنّ جوابه لا يعني أنّ «DHL» تسير على خطى منطقيّة وتراعي المعايير الموضوعيّة. فحتّى لو بقيت البضاعة لدى الجمرك من أجل تحرير بيانها، ما هو مبرّر إصدار بيان تسليم بقيمة 60 ألف ليرة، وخصوصاً أنّ البضاعة متعاقد على تسليمها من الباب إلى الباب!
«إنّه اجتهاد لبناني» متعلّق بعمل «DHL» في لبنان، بحسب حديث رئيس جمعيّة الصناعيّين فادي عبّود لـ«الأخبار». فالمعنيّون في شركة الشحن هذه يقومون بهذه الممارسة باسم «DHL» التي «لا تفرض رسوماً كهذه في أيّ مكان آخر في العالم».
ويتطرّق عبّود، بحكم علاقة القضيّة بقطاع الصناعة وتصدير منتجاته، إلى أداء الجمارك أيضاً فيقول إنّ «البضاعة جاءت من الأردن، فأين مفاعيل اتفاقيّة التجارة العربيّة؟». ولا يتردد في الإشارة إلى «مصلحة مشتركة» قد تبدو واضحة بين شركة الشحن والجمارك، حيث إنّ إطالة المعاملات تعني إفادة للجميع، إلّا المواطن أو الصناعي المتسلّم!
... إلى جانب هذه القضيّة هناك قضايا أكثر تشعّباً وفساداً، ما يؤكّد فكرة أنّ من غير الممكن تطوير أيّ قطاع إنتاجي إذا لم تتوافر له المقوّمات الضروريّة على الأصعدة كلها، ومن أهمّ الجوانب التي يجب مراعاتها وتطويرها هو الجانب النظامي والقانوني الذي يحكم عمل المؤسّسات العامّة والخاصّة. هذا العامل يترسّخ طابعه الحيوي بالنسبة إلى البلدان الناشئة التي لا تزال الطريق طويلة أمامها لتحقيق التنمية، والتي أساساً لديها سمعة سيّئة، وهذا أحد الأمثلة عليها.


25 في المئة

هي النسبة التي تمثّلها كلفة إجراء المعاملات الرسميّة عبر «المخلّص» من السعر الإجمالي للبضاعة. «وإذا لم توكل المهمّة إلى هذا العميل، تعلق في متاهات المعاملات الرسميّة أكثر»، على حدّ تعبير فادي عبّود


مفاجأة الخدمات