محمد زبيبقيل الكثير عن إفلاس صلاح عز الدين، حجمه وأسبابه وضحاياه وتداعياته على حزب الله وبيئته وجمهوره اللصيق... معظم ما قيل، وما سيُقال، لا يخرج من دائرة الشائعات، وهذا أمر متوقّع في مثل هذه الحالات، إلا أن بعض الشائعات تُفبركه أجهزة ودوائر معروفة في إطار الاستهدافات السياسية الواضحة والمحددة، وهذا ما أسهم في زيادة درجة الإثارة والغموض والتضخيم، وأسهم أيضاً في إخراج الملفّ برمّته من كونه ملفاً «مالياً»، فيه متورّطون مسؤولون تجب مساءلتهم ومحاسبتهم، وضحايا منكوبون يجب العمل على تحقيق العدالة لهم، إلى ملف سياسي معقّد وشائك يتصل بلعبة التجاذبات الإقليمية والدولية والصراعات الخفية والمعلنة على الساحات وفي الميادين المختلفة.
التحقيقات القضائية جارية، وقد لا تصل إلى إعلان النتائج الكاملة التي تمكّن الرأي العام من الاطلاع على تفاصيل ما جرى... تماماً كملفات أخرى سابقة بقيت تفاصيلها مجهولة وأبطالها طلقاء: من إنترا، إلى بنك المدينة، مروراً بكل ملفات المصارف المتعثّرة والفساد والإثراء غير المشروع وعمليات تبييض الأموال والاحتيال وحالات الإفلاس المشبوهة (الداعوق وحسون والجواد على سبيل المثال).
الخسائر غير محددة بدقّة حتى الآن، إلا أنها ضخمة في أقل التقديرات (400 مليون دولار) وخيالية في أعلاها (1.5 مليار دولار)، والضحايا غير محددين بدقّة أيضاً، إلا أنهم بالمئات، وربما بالآلاف، ومعظمهم من غير الأثرياء، ممن هاجروا أو تقاضوا تعويضات أو لديهم ادّخارات بسيطة... وكلّهم ممن ساورتهم أحلام الثراء السريع والسهل في ظل سيادة ثقافة الريع وجنون الاستهلاك ومفاهيم «الشطارة»... والثقة العمياء بعمل «المعجزة» اللبنانية التي توهم المسحورين بها بأنّ بإمكانهم أن يقتاتوا دائماً من جثث الآخرين وينتعشوا كلما تعمّمت المأساة من حولهم.
الصورة غير واضحة، صحيح... وما خفي من تفاصيلها أكثر وأخطر وأهم مما تلوكه الشائعات وتصيب متلقيها بالانهيارات العصبية. إلا أن خلف هذه الصورة ـــــ البازل، هناك تفاصيل واضحة جدّاً، وتستحق كل الاهتمام، ولكن أحداً لا يريد الدخول إليها، ولو من باب التحوّط والتحسّب لما قد يُصيب البلاد والعباد من مآسٍ أخرى قد لا تكون قابلة للاحتمال!
أحد المصارف أبلغ عن حركة مشبوهة قبل شهر
فملف إفلاس عز الدين، وقبله فضائح لا تحصى ولا تعد، يكشف عن عدم وجود أي رقابة فعلية على النشاطات المالية (مؤسساتٍ أو أفراداً) وعدم وجود أي حماية جدّية للناس (مواطنين عاديين أو مستثمرين ناشئين أو مخضرمين)، وقد يردّ البعض بأن مثل هذه الحالات تحصل في أي مكان آخر في العالم الفسيح... أو قد يردّ آخرون بأن هيئات الرقابة في لبنان، ولا سيما لجنة الرقابة على المصارف، لا يسمح لها القانون والأنظمة المرعية الإجراء بملاحقة ملفات الأفراد، بل تنحصر مهماتها بمراقبة المصارف والمؤسسات المالية الحائزة التراخيص الرسمية... وفي الردّين نصف حقيقة، أمّا النصف الآخر فترويه هذه الوقائع الموثّقة:
منذ انكشاف إفلاس عز الدين ووضع يد القضاء على ملفه، سارعت «المصادر» إلى الصحف ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ومنها صحيفة «فايننشال تايمز»، لنفي وجود «كبوة» للرقابة المصرفية، باعتبار «أن عز الدين أدار استثماراته بصورة شخصية، لا بأسلوب المؤسسات أو البنوك الاستثمارية، ما يجعل نشاطاته بالتالي خارج إطار الرقابة المفروضة»... كذلك نفت «المصادر» لصحيفة «الشرق الأوسط» أن يكون البنك المركزي ولجنة الرقابة على المصارف قد تعاملا بخفّة مع هذا الملف، إذ «أشرفا مبكراً على تنفيذ خطة وقائية سريعة هدفت إلى حصر أي ملف استثماري أو ائتماني له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالحركة التجارية والاستثمارية لعز الدين... وتبين أن الأثر محدود جداً على الجهاز المصرفي المحلي».
أولاً: ليس صحيحاً أن الهيئات الرقابية لم يكن لديها معرفة أو اطلاع على عمليات عز الدين، وعلى أي حال، فإن ما حصل يجب أن يحفّز المعنيين على تطوير القوانين والأنظمة الرقابية لتصبح شاملة وجامعة وتُطبّق على الأفراد والمؤسسات بكل تلاوينها وأنواعها. والأهم، يجب أن تحيّد الهيئات الرقابية عن أي تدخّلات في عملها، وتُمنح كل الشروط المطلوبة لأداء واجباتها. فهذه الهيئات، بصيغتها القائمة، لم تؤدّ دورها في الكشف عن عمليات احتيالية واختلاسات سابقة تمت بواسطة مؤسسات مالية ومصرفية (بنك المدينة وقبله بنك الإنعاش على سبيل المثال).
ثانياً: لم يظهر في الوقائع أنه أُشرف مبكراً على تنفيذ خطّة وقائية سريعة لحصر تداعيات ملف عز الدين، بل إن الصدفة وحدها، وطريقة عمل عز الدين نفسه، أسهما في إبقاء المصارف والمؤسسات المالية (الخاضعة للرقابة القانونية) خارج هذا الملف، إذ سُجِّلَت خسائر محدودة للغاية لدى بيت التمويل العربي (نحو 4 ملايين دولار) وشركة المستثمر المالية، التي يمتلك عز الدين 40 في المئة منها (نحو 4 ملايين دولار أيضاً).
تكشف مصادر مصرفية مطّلعة عن أن عز الدين كان يتعامل مع بنك لبنان والمهجر، وقد تنبّهت إدارة هذا البنك إلى وجود حركة «مشبوهة» في حساباته وحسابات مؤسساته ووجود حركة تحويلات لافتة بين حسابات عملاء آخرين وحساباته، فأبلغت هيئة التحقيق المصرفية بشكوكها في أواخر تموز الماضي، وفقاً لما تفرضه الأنظمة المعمول بها، فأجرت الهيئة تحقيقاتها، وتوصّلت إلى خلاصة تفيد بعدم وجود شبهة تبييض الأموال التي تقع ضمن اختصاصها، فأحالت الشكوك على لجنة الرقابة على المصارف، التي خلصت في منتصف آب الماضي إلى عدم وجود أي داعٍ للقلق، لأن هذه الحركة مرتبطة بنشاطات تجارية يقوم بها عز الدين وتجذب عدداً من المستثمرين، والأهم أنها خلصت إلى أن «المردود المالي الذي يدفعه عز الدين لعملائه له تفسير تجاري مفهوم».
الغريب أن هذه الخلاصة جاءت بعدما وردت إلى الهيئات الرقابية المذكورة إفادات عدّة تُظهر أن عز الدين يستثمر أموال الآخرين بصورة مخالفة للقانون، في مقابل عائد خيالي يتجاوز 20 في المئة في كل فصل! وأن عز الدين يوظّف هذه الأموال في شراء مواد أولية بأسعار تشجيعية بالتعاون مع «كبار المسؤولين» في 5 دول، منها غامبيا وزيمبابوي وتركمنستان، ثم يبيعها بصورة فورية بالسعر السوقي محققاً أرباحاً كبيرة!
كل هذه الوقائع لم تستدع أي تحرّك، بل بالعكس وُفِّرت التغطية لعمل عز الدين... فإذا به يعلن إفلاسه بعد أقل من أسبوعين من كل ذلك.
حركة غير طبيعية، واستثمار أموال الغير في مجالات غير واضحة بصورة فردية وخارج نطاق الأنظمة وعبر «اتفاقيات» مع مسؤولين في دول أخرى... ألا تستحق هذه الوقائع مساءلة هيئات الرقابة؟