حداثة لا تحجب المأساة يطوّقها جدار يخنق الأفقرام الله ــ فراس خطيب
في أحد حوانيت الملابس في مدينة رام الله، وقفت امرأة تجاوزت الستين من عمرها. ملامحها مُتعبة من الحياة أو من الصوم في حرّ أيلول، أو من كليهما معاً. ساورتها الحيرة أمام ألوان القمصان المنتشرة في واجهة المتجر. قال لها البائع: «خذي ما تشائين، وإذا لم يعجبه تستطيعين إرجاعها». فردَّت عليه بلهجة غريبة: «إنّ ما يخرج من هنا لن يعود ثانية». وعادت لتقلّب أكوام الملابس: «فتش لي عن قميص يليق بهذا الشاب. أريد المقاس نفسه تقريباً، فهو يشبهه». وقالت من بعدها: «ابني أسير في سجن نفحة».
كانت المرأة تستعد لزيارة ابنها يوم الخميس المقبل. حين تحدّق في ملامحها الصامتة ترى فيها مشهداً لا يفككه أحد سواها، فتقف عاجزاً أمامها. هل هي فرحة للقاء ابنها العالق من وراء القضبان، أم أنَّها حزينة على عيد آخر يأتي من دونه؟ تحاول أنَّ تكسر جمود المشهد فتسألها: «هل بقي له الكثير هناك»، فتردّ: «30 عاماً».
مشهد تراه في رام الله. فالمدينة التي تكبر في كل مرة تزورها، تزودك، مثل كل المدن الفلسطينية، بقصصٍ لا تخفيها الحداثة. من يزُر رام الله اليوم يرَها تتوسع: بناء حديث، وعمارات تنتشر على التلال، ولافتات دعائية ضخمة، وأزمات سير خانقة وشركة مرور تسيطر على النظام و«مطاعم لن تجدها في تل أبيب»، كما يقول أحد سكان المدينة. قد يشعر سكانها، أو المستثمرون فيها، بـ«أمن وأمان»، فكل شيء قريب من السلطة. لكنَّ رام الله، في الوقت نفسه، ليست مثالاً على باقي مدن الضفة الغربية المحتلة، والحياة في قلبها لا تشبه الحياة أبداً في مخيمات اللجوء المحيطة بها مثل الأمعري وقلنديا. ولا تشبه الحياة في الخليل أو نابلس وطولكرم.
يقول أحد السكان إن الاستثمارات في المدينة الضخمة «إلى جانب دورها الإيجابي، إلا أنَّها عزّزت الفجوات بين الطبقة العليا والسفلى. فالموظف البسيط ظل بسيطاً، لكنّ مستوى الحياة ارتفع أضعافاً، بينما رواتب البسطاء بقيت كما كانت».
من يرد النظر إلى كواليس المشهد، فقد يرى صورةً أخرى عن المكان في قلب المكان: فتى يقف متعباً إلى جانب عربة عصير اللوز، وبائعون يجلسون في محالّهم التجارية، يتابعون مسلسلاً أو فيلماً على أمل دخول الزبون أو نهاية النهار. المدينة تكبر، لكنَّها تتوسع في أفق محدود يحيطه الجدار والمستوطنات. فالمدينة التي تحتل مكاناً رسمياً على مستوى التصريحات، لا تشبه اسمها في نشرات الأخبار، فهويتها على أرض الواقع تختلف، وناسها في الأسواق لا يشبهون ناسها في الاستوديو. لكل شيء وجهان هنا، وللطريق صورتان، واحدة ممكن أن تراها من ناقلة البثّ، وأخرى من الباص الأخضر والأبيض الذي يُقلّ الهموم من القدس إلى رام الله ذهاباً وإياباً.
تتعدد الآراء عن المدينة الواحدة، فكل واحد يراها من منظاره الخاص. يقول أحد زائريها، إنه كان يحبها ذات يوم «حين جمعت بين الأجواء الريفية ورقيّ المدينة في بداياتها»، لكنَّه اليوم يحجم عن عشقه القديم، ويراها تحولت أمام عينيه لـ«مجّمع بورجوازي ومؤسساتي جمعياتي». ويشدّد على أن «هذه الأجواء ليست لي». بينما ترى فتاة أنّها تلمس في المدينة المتوسعة «تعطّش الناس للفرح». وهناك من يراها أيضاً أنها «الإرادة بالحياة رغم

لكل شيء وجهان هنا، وللطريق صورتان: واحدة من ناقلة البث، وأخرى من باص يُقلّ الهموم

الجدران والحواجز». وعند توجيه السؤال لثالثةٍ، تصمت قليلاً وتطلب دقيقة للتفكير. لكن بعد خمس دقائق تكون الإجابة: «لست أدري». فالمدينة محيّرة وتحوّلاتها لا تحظى بإجماع الآراء.
الدخول إلى رام الله أسهل من الخروج منها، ليس فقط لأنَّ الانتظار على الحاجز يشبه العقاب، بل لأنَّك ترى واقع الفلسطينيين مختصراً بوقفة في ذلك المكان المسمّى حاجزاً. أمتار تفصلك عن الجدار. والجدار لا يشبه الصور. على الواقع يبدو أضخم وأقسى، وفي صلب التساؤل، تسمع ضربةً على زجاج السيارة، طفل يحترق من حرارة الشمس، يحمل علكةً رخيصة، لا يبيع، بل يتوسل. وآخر يمسح زجاج السيارة، ورجل عجوز على مقربة منهما يحمل ولاعات ينظر من بعيد. هؤلاء، مثل أهل رام الله، الأغنياء والفقراء، عالقون، لا يستطيعون الخروج من المدينة. مشهد قاسٍ، وخصوصاً أنك تراه من خلف زجاج مكيّف.
رام الله مدينة جميلة، لكنها بين مرارتين: واحدة عند دخولها، قد تشعر بأنّك آتٍ من «العالم المفتوح» إلى غرفة «محصنة في جدار». ومرارة أخرى عندما تغادرها، لتظل المشاهد عالقة، مدينة قيد التطوير وجدار يخنق الأفق وسائق سيارة أجرة يشعر بأنَّ الشارع ملكه. لكنَّ مشهد المرأة التي ستزور ابنها سيظل الأقوى، فتتمنى بصمتك أن يمرّ يوم زيارتها على خير، أن تستفيق عند السحور، وأن تعبر الحاجز، وأن تصل إلى السجن البعيد في الوقت المحدد، وأن يكون السجّان «متسامحاً» ويسمح لها بإدخال القميص.