انهارت هذا الأسبوع الأرض في وسط القاهرة. ابتلعت سيارة ومالت بـ١٠ منازل. وبدت الأرض الراقصة إشارة إلى حدود ما وصلت إليه مصر من انهيار. انهيار يشير إلى تحوّل البلاد إلى ما يشبه حديقة فوضى عالية الأسوار
وائل عبد الفتاح

جيش الدفاع عن «أمين السياسات»


المعركة اشتعلت. الوسط الصحافي كله مشغول بالمعركة. من انتصر؟ من خان المبادئ؟ من وجّه الضربة القاضية؟ هكذا بعد التحيّات والسلامات سيكون السؤال الأول في أي جلسة: «هل قرأت رسالة جمال مبارك في المصري اليوم؟»، والمقصود رسالة منشورة باسم جمال مبارك في مقال رئيس تحرير «المصري اليوم» مجدي الجلاد. الرسالة موجّهة إلى رئيس تحرير «روز اليوسف»، عبد الله كمال، أكثر المدافعين عن النظام شراسةً وقدرةً على توجيه الشتائم والاتهامات. يؤدّي دور «فزّاعة» المعارضة. وينتمي إلى كتيبة خاصة في الدفاع عن الرئيس مبارك وابنه جمال. دفاع لا خجل فيه. يستخدم أسلوباً عدوانياً يتجاوز النفاق التقليدي إلى مساحات فريدة.
الرسالة أحدثت لبساً: هل هي حقيقية أم متخيّلة؟ انتظر جمهور المعركة للكشف عن الحقيقة في الحلقة التالية، لكن النشر توقّف فجأةً ومن دون تفسير. كما أن عبد الله كمال لم يردّ.
هل صدرت تعليمات للاثنين بالتوقف؟ هل كانت هذه مجرد جولة في الصراع على حراسة جمال مبارك صحافياً؟ هذه أسئلة الوسط الصحافي. المعركة فوّارة ومصيرية في لحظات البحث عن إثارة، والتعطّش إلى أي حركة في بحيرة راكدة.
ورغم أن المعركة تشبه تأثير صودا المياه الغازية، تنعش الجمهور المتابع وتخرج مشاعر التشفّي والحاجة إلى التعصب لفريق والعداء لفريق آخر، فإنها معركة خاسرة لمن يرى المستقبل بعين مختلفة. المعركة لا بد أن تنتهي بجملة واحدة: «مين يقدر على جمال مبارك؟». فالحرب على القيام بحراسته الصحافية لا بد أن تُرسي قواعده في أرض قلقة. كما أن خلفية المعركة تتخيل أن لدى جمال مبارك قيماً وأفكاراً تجعله يختار شخصاً آخر غير قائد حرسه الصحافي.
الخيال ليس في كتابة الرسالة، التي عدّها البعض رسالة غرامية لجمال مبارك. الخيال الذي يتسرب من هذه المعركة هو أن «جمال مبارك أفضل من الصورة التي تصنعها له الحاشية الصحافية».
الحرب حول موقع الحارس الصحافي وقت اشتعلت وصنعت جمهورها، كان جمال مبارك في طريقه إلى زيارة النوبة، المنطقة المنسية في مصر. جزيرة المضطهدين وضحايا تغيير مجرى نهر النيل بسبب السد العالي. هؤلاء نسيتهم الأنظمة والحكومات المتعاقبة، وتعاملت معهم بمنطق قوافل إغاثة لا كشعب له حضارة وأرض وجذور.
زيارة النوبة غالباً هي إحدى وصايا سمعها جمال في زيارة أميركا الأخيرة. وعندما يسافر الحالم بالرئاسة إلى النوبة، فإنه يكسب جولات خارجية وداخلية.
انتظرت جمال مبارك تشريفة شعبية (لا يهم أنها بالإيجار لكنها أمام الشاشات تعبير عن الشعبية). اصطف الأطفال والنساء والشباب على الجانبين يحملون الأعلام، ويهتفون تحت لافتة كبيرة ترحّب بأمين لجنة السياسات.
ماذا يفعل أمين لجنة السياسات في النوبة؟ الزيارة جزء من مخطط أكبر هو فرض صورة «رئيس الأمر الواقع». إنها رسالة موجّهة بعيداً عن النخبة المتصارعة على معركة الحارس الصحافي. موجّهة إلى من يعتقدون أن الرئيس يخرج من بيت الكهنة، الذين يجتمعون ويتباحثون ويخرجون بالحاكم الجيد ليسجد له الناس ويعبدونه.
هذا هو الخيال الفقير للمجموعة المحيطة بجمال: يلعبون على أفكار قديمة تماماً عند الجماهير النائمة في انتظار عطف سكان القصر العالي في القاهرة، بينما أمام النخبة ترتدي المجموعة نفسها قمصان «النيو لوك» المتحرر من أساليب دول الكهانة المستبدة.
فرض الرئيس بالأمر الواقع مثل فرض المناقصات بالأمر المباشر. فساد سياسي واضح المعالم.
قال السياسي، الذي أعلن مرات عدة اعتزال السياسة وأكمل، «ما يحدث ليس توريثاً. ولا حكم عائلة مبارك. هذا هو الفخ. فمن قال إن مبارك يريد توريث ابنه؟ ولماذا نصف مخطط جمال مبارك بأنه التوريث؟»
الحقيقة أنه تاريخياً، أي من ٢٠٠٢، المخطط ليس عائلياً. لكنها مجموعات مصالح أرادت السيطرة إلى الأبد على الرئيس والرئاسة. فسربت المخطط شيئاً فشيئاً. الرئيس غالباً لم يعارض، حتى من قبيل محبة الابن، أو على الأقل ضمان عدم الانتقام من عائلته. لكن المخطط كان ضماناً لاستمرار سريان المصالح، لا لإرساء حكم العائلة.
الرئيس مبارك ورث من سابقيه عشق الحكم الأبدي، وتصوّر أنه استثناء وهدية إلهية تبرّر خلوده على عرش مصر. فالرئيس يتصوّر طبعاً أنه أنقذ مصر، وأنه يتحمّل كل هذا من أجل مصر، وأن مصر تحتاج إلى حكمته. أي إن الديكتاتورية والاستبداد «علشانك يا مصر». ووصول جمال مبارك أيضاً «علشانك يا مصر».
هذا ما يريد المخطّطون أن يقنعوا به الملايين، الذين لم تزعجهم لافتات الترحيب بأمين السياسات. ماذا يعني أمين السياسات؟ ولماذا يزور النوبة زيارة شعبية؟ هل يذهب إلى أماكن نصحته بها دوائر أميركيّة؟ هل يبحث عن شعبية وسط «شعب النوبة المضطهد»؟
تفسيرات مكررة. لكن ما يهم أكثر هو كيف مرت على الناس المستقبلين أو الذين شاهدوا الاستقبال فكرة «أمين السياسات». ذكّرني صديقي بأنها تشبه وصف العقيد معمر القذافي بأنه أمين القومية العربية، فلا وجود للقومية العربية ولا توصيف محدّد لمهمّات أمينها.
جمال مبارك أمين لجنة السياسات في حزب سياسي. ما علاقته بالجولات الشعبية ومشاكل النوبة؟ وهل يسمح لأمين السياسات في أي حزب بهذه الجولات؟
عقلية الفساد الفقيرة الخيال نفسها. العقلية التي تُرسي العطاء على أقارب رئيس شركة قطاع عام تحت لافتة وهمية. جمال مبارك ومن حوله يفكّرون بمنطق شلّة الفساد المحيطة بابن رئيس شركة قطاع عام. يريدون الاستفادة من نفوذ الأب، الذي يرى أن وجوده على رأس شركة القطاع العام منحة إلهية للشركة. وفي مقابل هذه المنحة لا مانع من أن ينال ابنه أو من يحبّهم جزءاً من خير الشركة على طريقة المثل المصري الساخر «كلّه يدلّع نفسه».

عصر تدمير المجال العام



الحكاية متكررة. رجل من الشطّار يلمح بعينه مساحة فارغة بين بنايتين من بنايات وسط البلد، يضع قدمه الأولى. قطعة خشب تصبح طاولة، ثم مقاعد تصبح نواة مطعم، وبعد أشهر تختفي المساحة


لا ممرّات في مصر الآن. ولا ساحات عامة. إنها مسابقات لاحتلال المساحات الفارغة حتى لو كان هذا على حساب «المساحة العامة». كل ما هو عام محل صراع من غرائز متوحشة ومثار رعب، سواء كان مستشفى أو مدرسة أو هيئة حكومية أو شارع. الشوارع للتحرّش. والهيئات لممارسة ساديّة الموظفين. والمدارس لتخريج جيوش عاطلين ومحبطين وخانعين.
وهذه حكاية شاب رأى بعينه قريبة له تنزف على باب مستشفى الدمرداش العمومي. أوقفها الطبيب المسؤول: «خلّوها هنا مفيش مكان. لما حدّ يموت ها ندخلها».
الخوف من العمومي هو الذي حوّل أنفلونزا الخنازير في مصر إلى حالة مرعبة. مستشفى الحميات أصبح منتجعاً لزوار دائمين يخدمون المرضى بمنطق «اخدم نفسك وصديقك أيضاً».
إنه عصر تدمير المجال العام. عصر الأنانية المفرطة. كل من يستطيع أو يمتلك قوة وضع يده على مكان يسيطر عليه، ولا يحركه منه إلا الأقوى منه. فما الداعي إلى العمل أو الإخلاص أو مراعاة الضمير والمسؤولية. هذه القيم غابت تماماً. لم يعد هناك مجال عام نتفق على الحفاظ عليه معاً لنضمن حياة سالمة بلا مخاطر. لا يهم الدراسة الجيدة للحفر في منطقة باب الشعرية. المهم أن «السبّوبة تمشي». السبّوبة تعلو ولا يُعلى عليها. وكله تحت موجة من تديّن شكلي يربط كل شيء بالدين والله. أي إن الفاسد يفسد والمسؤول يفقد إخلاصه، وعندما يحدث شيء يتمسّح الجميع بالله، قضاء وقدر، رغم أن المسلمين صنعوا دولة وحضارة بجهودهم وحروبهم وقدراتهم القتالية لا بالاتكال على الله أو استخدامه لتبرير الكوارث. حتى النصر في كرة القدم تريد هذه الثقافة التافهة أن تتمسح فيه بالله وتضعه في الملعب. فيقول أحمد حسن، كابتن المنتخب، إن الهدف الذي أحرزه مكافأة له على صيامه. وهذا ليس تديّناً أو انتماءً إلى تيارات تخلط الدين بالسياسة، لكنه استجابة لموجة من التبرير الديني يستخدمها المجتمع لتبرير الأحوال المتردية، ويستخدمها أصحاب السلطة ليقولوا إن ما يحدث في مصر «إرادة الله».
هذا هو العبث الكبير في مصر. إنه اللهو الكامل عمّا يحدث. هروب من التفكير، كسل عن الاجتهاد. شعور بالعدمية، أي بتساوي الفعل وعدم الفعل، الحياة بالموت، والخير يتساوى مع الشر.
نهرب من واقعنا إما إلى الماضي أو إلى الأنانية المفرطة التي تقود إلى الانهيارات. من انهيارات الأخلاق التي لم تزعج أحداً، إلى انهيارات الشوارع والمدن والبنايات على رؤوس أصحابها.
ربما توقظ كل هذه الإشارات أحداً. ربما التهديد الذي مثّلته انهيارات باب الشعرية ينير الطريق لنفهم «مصر إلى أين؟».

مزارع الفاشيّة الوطنيّة


سألت المذيعة: مصر بالنسبة لك إيه؟ قال لها المسطول الأول: مصر هي أمّي. فاستدارت وسألت زميله: وانت. مصر بالنسبة لك إيه؟ فرد بسرعة: «أنا مبتكلمش عن أم واحد صاحبي».
وطنية موروثة من الأنظمة الفاشية. تربى المواطن على أنه مجرد رقم في عائلة كبيرة. وطنية تقوم على التعصب الأعمى. وعلى فكرة القطيع الذي لا يفكر.
عقلية السلطة ترى في الشعب قطيعاً واحداً وعلباً متشابهة ترص على رفوف، فتبدو تشابهاتها أقوى ومصدر فخر. ومن هنا، فان الضباط أقاموا حملات في رمضان هذا العام للقبض على المجاهرين بالإفطار. الضباط يريدون توصيل رسالة عليا بأنهم يمثلون دولة إسلامية وينافسون بذلك الإخوان المسلمين ومن ينازعهم في هذه الصورة لدى الناس. وحين يلقي الضابط القبض على المفطر، يوقظ قانوناً قديماً أُقرّ في عصر الملك فؤاد عندما كان يريد أن يكون خليفة المسلمين، ويخرج شحناته المكبوتة في فرض موديل أخلاقي كما هي عادة متخرّجي الثقافة المحافظة. فالضباط الذين يحرسون الملاهي الليلية يتحولون في رمضان إلى حراس العقيدة والوطن معاً. هذه الحراسة التي تلغي تقريباً الحرية الشخصية وتخنق الاختلاف، تصب الجميع في قالب واحد.
بهذه العقلية، فإن من يعارض ترشيح فاروق حسني «لليونسكو» هو من حزب الفاشلين والعجزة، كما قال السيد ياسين في مقال ضمن ملف في أسبوعية «المصور». ورغم أن الضابط حارس العقيدة يختلف عن المفكر الذي تلتصق به دائماً صفة الليبرالية، فإنهما يلتقيان في استعادة وطنية الأم الواحدة، ويريان أنّ الاختلاف فشل وعجز (بالنسبة إلى المثقف) وخروج عن القانون (بالنسبة إلى الضابط).
وهما (المثقف والضابط) لا يعملان من فراغ. يعملان في مواجهة مؤامرة خارجية. هي عند الضابط ضد الإسلام والقيم المصرية من وجهة نظره، وعند المثقف ورابطة مشجعي فاروق حسني مؤامرة ضد المرشح المصري، الذي يجب أن يرتقي الأعالي.
ورغم أن الصيام حرية شخصية، والحماسة لفاروق حسني كذلك، فإن أُسطورة «مرشح مصر» الذي يجب أن تقف مصر كلها خلفه أسطورة وهمية. الحكومة المصرية لم تقف بكاملها مع الدكتور إسماعيل سراج الدين عندما ترشح «لليونسكو» في الانتخابات السابقة، كما أن مصر صوتّت ضد الدكتور محمد البرادعي في ترشيحات هيئة الطاقة النووية.
من هنا فإن اعتبار الخارج عن القطيع مشروع خائن أو فاشل أو عاجز أو متهم بإثارة الفتن جزء من أزمة الفرد في دولة القطيع. دولة الوطنية الطاغية ومزارع الفاشيّة، التي ترضي المهزومين وتدغدغ حواسّهم المنهكة.