عام 2001 اقترب الفلسطينيون كثيراً من محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون كمجرم حرب في مجزرة صبرا وشاتيلا. شهود المجزرة الذين رفعوا دعاوى ضده يقلّون عاماً بعد عام. منهم من غادر لبنان، ومن بقي يحرص على استعادة القصة... فماذا يتذكرون؟
قاسم س. قاسم
«صهري كان مقطّعاً ثلاث قطع، وكان بلا رأس. عرفته من هويته. ابنتي كان وجهها مشوهاً. قوّصوها بوجّا. وابني علي الصغير عرفته من ثيابه» تقول سميحة عباس حجازي، واحدة من شهود مجزرة صبرا وشاتيلا الذين توجهوا إلى بلجيكا عام 2001 لرفع دعوى قضائية ضد شارون ومحاكمته كمجرم حرب آملة «تحصيل جزء بسيط من حقي وحق ولادي يلي ماتوا» كما تقول.
لا تزال حجازي تذكر ليلة 16 أيلول من عام 1982 عندما بدأت المجزرة. سرت الشائعات خلال النهار بين سكان المخيم بأن «الجيش الإسرائيلي يريد دخول المخيمات لتطهيرها فأرسلت ولدي علي، ابن الـ11 عاماً، لعند ابنتي التي تسكن في الحي الغربي من مخيم صبرا معتقدة أن منزلها سيكون بمأمن هناك». بعدها تحضّرت حجازي للحاق بأولادها هرباً مما قد يحصل، «أخذت معي مؤناً وثياباً للأولاد»، لكنها لم تستطع الوصول إلى منزل ابنتها نتيجة اشتداد إلقاء القنابل المضيئة فوق المخيم فاتجهت نحو الملجأ النمساوي.
كانت الساعة السادسة مساءً حينها. اشتدّ القصف أكثر «جلست في الملجأ قلقة على أولادي، وخصوصاً أن طفلي الصغير لم يكن معي». في اليوم التالي، خرجت حجازي تبحث عن أولادها، فوجدت الجثث في أزقة المخيم. «وجعني قلبي ورحت أركض لعند بيت بنتي». وصلت حجازي إلى الحي الغربي، فلم تجد ابنتها في المنزل الذي «سُرقت أغلب محتوياته». خرجت السيدة باتجاه الطريق الرئيسي، وقفت أمام حفرة بالقرب من منزل ابنتها، وهناك «وجدت جثثاً مكومةً بعضها فوق بعض. بدأت بتقليبها، رأيت ملابس عرفتها ويا ليتني لم أعرفها، كانت ملابس ابنتي». تقطع السيدة حديثها بكلمة «الحمد لله». ثم تكمل بصوت متهدّج «كان دماغها خارج رأسها، إذ أن جماعة يللي سموه أبو علي (إيلي حبيقة) أطلقت النار مباشرة على وجهها». تقوم السيدة وتأتي بصورة ابنتها وصهرها: «كانوا متجوزين جديد. صهري كان مقطع لثلاث شقف دفنّاه بدون راس».
يتدخل ابن شقيقتها محمود حسن إدلبي في الحديث، معرّفاً عن نفسه: «أنا ناجٍ من المجزرة كمان». ثم يضيف معلوماته مؤكداً حديث خالته «سحبنا 22 جثة من الحفرة، دُفن البعض وتركنا الجثث التي تحلّلت». يسكت إدلبي. تمرّ لحظات الصمت بطيئة ليقطعها صوت أنين السيدة. تحمل الآن بين يديها صورة ابنها علي، تمسحها بيدها تتأملها «بتضايق لما أشوف أولاد جيله كبروا وهو مات». تعلّق مرة أخرى «الله كاتبلو يموت بهالعمر». تعتذر السيدة. تبكي بصمت وتقرر ألا تكمل حديثها فتترك الكلام لابن اختها. «لأني صايمة يا ابني، وبعد موت ولادي صار معي سكري والقلب».
إدلبي نجا من المجزرة بعدما فقد شقيقته، كما شارك خالته برفع دعوى قضائية ضد شارون. فقد الرجل عائلته في المجزرة، أما هو فكان في الأحياء الداخلية للمخيم التي «لم يستطع أن يدخلها المجرمون». يوضح الرجل الخطأ الشائع عند الكثيرين قائلاً «المجزرة جرت على أطراف مخيمي صبرا وشاتيلا تحديداً في منطقة الحوش في مخيم شاتيلا والحي الغربي في مخيم صبرا». أما عند سؤاله كيف نجا منها فيقول: «كنت أركض هرباً في أزقة المخيم»، ويضيف ممازحاً: «شايف فايدة الركض والمشي». بعد انتهاء المجزرة عمل إدلبي مع المسعفين لرفع الجثث التي كانت تملأ الأزقة. بقيت ذاكرة المجزرة ثقيلة على الفلسطينيين 19 عاماً، حتى «ظهرت لنا فسحة أمل بمحاكمة المجرمين»، يقول إدلبي. فقد أخبر المحامي شبلي الملاط الشهود المفترضين أنه «يمكنهم محاكمة شارون كمجرم حرب في بلجيكا» وفق قانون يسمح بمحاكمة جرائم الحرب غير المتعلقة ببلجيكا لمجرد انتهاك معاهدة جنيف بشأن قوانين الحروب. كان الخبر الذي حمله الملاط مفاجئاً للأهالي، وخصوصاً أن القضية أخذت منحى جدياً عندما «طلب منّا توكيله في القضية، مبشراً بأن كلّ تكاليف السفر إلى بلجيكا ستكون على حسابه»، يقول إدلبي.
هنا تقاطع الخالة ابن أختها «بس كيف بدنا نحاكم إيلي حبيقة، الذي نعتبره قاتل أولادنا فيما الدولة اللبنانية كرّمته ليصبح وزيراً في الحكومة؟». تتابع السيدة حديثها «طلب منّا الملاط عدم توجيه الاتهام لحبيقة في المحكمة، والاكتفاء باتهام شارون مباشرةً. كيف ما بدنا نحكي عن حبيقة وهو وجماعتو قتلوا العالم؟». يخالف إدلبي رأي خالته: «أنا بتوجّه على راس الحيّة شارون، شو بدي بدنبها؟». هكذا اختلفت وجهات النظر لجهة تحميل المسؤولية عمن ارتكب المجزرة. لكن المسلّم بالنسبة للأهالي أن إسرائيل ضالعة بالموضوع «لأنها كانت تحتل البلد، والمحتل هو المسؤول عما يجري على الأرض».
توجهت حجازي مع وفد من الشهود إلى بلجيكا، هناك شهدت ضد «شارون وإيلي حبيقة» كما شاءت، بينما شهد آخرون ضد شارون فقط على مبدأ «ضرب رأس الحية». أما إدلبي فلم يترك لبنان على الرغم من أنه كان شاهداً في القضية، لأنه «جرى الحديث قبل سفرنا أن من سيخرج من لبنان لن يعود إليه لذلك لم أذهب إلى بلجيكا». هناك في قاعة المحكمة حملت حجازي صورة ولدها وابنتها مرتدية فستان عرسها. تذكر السيدة كيف توجه إليها محامي الدفاع عن شارون قائلاً إن «شارون ليس القاتل» وكيف حاولت أن تضربه بصورة ابنتها.
تسارعت وتيرة الأحداث في بلجيكا ولبنان، وخصوصاً مع إعلان إيلي حبيقة حينها أنه يملك وثائق تدين شارون. هذا الإعلان، ورغم أنه صدر عن «شخص مجرم، لكنه يملك معلومات ستوصلنا إلى الحقيقة عُدّ فرحةً لدينا» تقول السيدة. فرحة الأهالي لم تدم طويلاً، ففي 24/1/2002 اغتيل حبيقة، و«بموته ماتت القضية».
لكن، مثلما شهدت المحكمة إقبالاً إعلامياً عربياً ودولياً من جهة، وتسارعاً في وتيرة أحداثها من جهة أخرى، فهي شهدت تراجعاً وخلافات داخلية أوصلت لإنهاء المحاكمة وإغلاق القضاء البلجيكي نفسه الملف. يقول رئيس الرابطة العربية الأوروبية في بلجيكا آنذاك، دياب أبو جهجاه في اتصال مع «الأخبار»، إن «الرابطة كانت تعمل لرفع دعوى قضائية ضد شارون في بلجيكا، وكنا على تواصل مع المحامية ماري روز الصايغ التي عملت مع ضحايا المجزرة فكانت الفكرة أن نحاكم شارون فعلياً بدل أن يُحاكم في محكمة شعبية وصورية كان من المقرر إجرائها في الولايات المتحدة». هكذا بدأ العمل مع الشهود وتجهيز ملفات الدعوى في لبنان وبلجيكا على حد سواء. أما السبب وراء وقف المحكمة فيرده أبو جهجاه إلى «الضغط الإسرائيلي والأميركي على بلجيكا الذي دفعها لتعديل القانون الذي يسمح بمحاكمة مجرمي الحرب، وخصوصاً بعد توجه بعض العراقيين لرفع دعاوى ضد قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال فرانكس». لذلك عدّلت بلجيكا قوانينها وأغلق ملف الدعوى ضد شارون.
رغم ذلك تشعر حجازي أن «الله أخدلي حقّي فشارون فات بكوما (غيبوبة)». أما بالنسبة إلى إدلبي فإن الملف وضع «على الرف أو ممكن رموه بالمحرقة».


إحياءً لذكرى المجزرة، تنظم لجنة «كي لا ننسى شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا» سلسلة نشاطات تشارك فيها وفود أجنبية اعتادت إحياء الذكرى.
وتبدأ نشاطات الوفد من الجنوب اليوم بسلسلة زيارات، وتستكمل غداً بلقاء مع عائلات ضحايا المجزرة في مخيم شاتيلا، وسيكون بعد غد يوماً شمالياً في البارد، على أن تختتم نشاطات الوفد بمسيرة تنطلق صباح الجمعة 18 لأيلول من أمام المركز الثقافي التابع لبلدية الغبيري باتجاه ضريح الشهداء.