تبدأ إيلين سيجال صياماً عن الطعام والشراب في 16 أيلول الجاري تضامناً مع الفلسطينيين المحاصرين في غزّة. خطوة ليست غريبةً عن الممرضة الأميركية اليهودية الناجية من مجزرة صبرا وشاتيلا
محمد محسن
في كلّ ذكرى للمجزرة، تعود إيلين إلى لبنان لأهداف عديدة، أهمها المشاركة في حملة «كي لا ننسى مجزرة صبرا وشاتيلا». يقفز الوجع من وجهها عندما تبدأ حديثها عن الأجساد المترامية على الطريق العام في مخيم صبرا. هناك، نام الشهداء بهدوء. لم تربكهم «الجرافات التي كانت تقلب التراب وركام المباني على جثثهم».
كانت إيلين قد حضرت إلى لبنان بعد شهرين من بدء الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، لمداواة جرحى المخيمات. رأت أكثر مما سمعته عن فظاعات الجيش الأميركي في سايغون، عندما كانت «مناهضةً» لحرب فيتنام. ذابت في الفلسطينيين، حتى كاد الموت يكتب اسمها في لائحة أسماء شهداء المجزرة، لولا... «تدخل ضابط إسرائيلي». كيف حصل ذلك؟ تروي إيلين: بعد انتهاء رجال الميليشيات، وتحديداً الكتائب، من مذبحتهم، توجهوا إلى مستشفى غزة وطلبوا من الممرّضين والعاملين فيها النزول إلى الطابق السفلي، وتسليم جوازات سفرهم. جمعوا طاقم المستشفى مع مجموعة من أهالي المخيم في بقعة صغيرة، وطلبت الميليشيا من الممرضين خلع زيّهم الأبيض وساروا بهم باتجاه حائط مزدحم بطلقات الرصاص: حائط الإعدام.
«أمروا الجميع بالاستدارة نحو الحائط، ورفعوا بنادقهم لإعدامنا. كنا 20 شخصاً تقريباً»، تقول. لكن قبل لحظات من الموت، باغت ضابط إسرائيلي رجال الميليشيات ومنعهم من تنفيذ الإعدام صارخاً بهم «لا تطلقوا النار، أنزلوا بندقياتكم»، وفق ما أكده صحافي إسرائيلي لإيلين بعد فترة من حدوث المجزرة.
باغت ضابط إسرائيلي رجال الميليشيات ومنعهم من تنفيذ الإعدام
إيلين التي شاهدت أعمال القتل، قرّرت أن تصفع مرتكبيها. أدلت بشهادتها أمام لجنة «كاهان» الإسرائيلية. وهي لا تبدو راضية عن نتائج التحقيقات، التي حصرت مسؤولية الجيش الإسرائيلي في الإهمال والتقصير. بل تعتبر الجيش الإسرائيلي شريكاً في قتل الأبرياء. تؤكد أنّه «لولا محاصرة الجيش الإسرائيلي للمخيم، وإطلاقه القنابل المضيئة وتزويد المسلحين بوسائل الاتصال، لما أقدموا على فعلتهم». دفعتها يهوديتها للحديث أمام اللجنة من منطلق «المظلومية» التاريخية لليهود «من عاش الهولوكست، يجب ألا يسمح بقيام المجازر أو يصمت عنها». كذلك، لم تغفل تحميل المسؤولية لبلادها أيضاً. إذ أن الاتفاق الذي أبرمه الموفد الأميركي فيليب حبيب كان يقضي بأن تقوم القوات المتعددة الجنسيات، بحماية الفلسطينيين بعد خروج مقاتلي منظمة التحرير منها، وهذا ما لم يحصل، وهو «كافٍ لتحميل الولايات المتحدة جزءاً من المسؤولية أيضاً».
لم تكن إيلين شاهدةً على مجزرة صبرا وشاتيلا فقط، فهي قد زارت لبنان مرتين، أولى في عام 1972 والثانية في عام 1980. وقد كان لزيارتها الأولى، الأثر الأبرز في تكوين رأيها بالقضية الفلسطينية. لا تزال تحتفظ في منزلها في واشنطن، بأول صورة لها في مخيم برج البراجنة، وتحديداً، أمام مستشفى حيفا. هناك عرض عليها كهل فلسطيني صور منزله وبستان البرتقال الذي كان يمتلكه في فلسطين، قبل أن تسرقه العصابات الصهيونية. «أنا يهودية، وكنت أسمع أن فلسطين هي أرض بلا شعب، إلى أن حدّثني هذا الرجل». قبضت بيدها على مفتاح البيت «علمت حينها أن الفلسطينيين مظلومون».
تعود للحديث مجدداً عن المجزرة. برأيها، الوقت والنسيان ليسا أقوى من مجزرة كصبرا وشاتيلا. لكن المشكلة تكمن في أنّ العرب ما زالوا يحتاجون وقتاً لتظهيرها في أدبياتهم، قبل أن يوصلوها إلى العالم، ولهم في «الهولوكوست» عبرة.