أميركا وسوريا أمورهما سالكة، وغول الطائفية والمصالح المذهبية لا يزال ينهش العراق ونوري الماكي يودّع رئاسة الوزراء، وفضل الاستنتاج لتداعيات «الأربعاء الدامي»

إيلي شلهوب
حملت الأزمة العراقية ــــ السورية الأخيرة مجموعة إشارات تبدو غاية في الأهمية للمساعدة في قراءة مجريات المعادلة الإقليمية والوضع الداخلي العراقي. على الصعيد الأول، هناك الموقف الأميركي «المحايد»، الذي رأى في ما يجري بين بغداد ودمشق «شأناً داخلياً» تجب معالجته عبر «الحوار»، مع ما يعنيه ذلك من استمرار للرهان على الحصان السوري في إطار الرؤية الجديدة للرئيس باراك أوباما في شأن كيفية التعامل مع المنطقة. ناهيك عن أن الموقف نفسه ربما يكون إشارة إلى قناعة أميركية بلا مصداقية اتهام المالكي، أو على الأقل باقتناع الإدارة بأن دمشق تبذل ما في وسعها لوقف ما كانت إدارة جورج بوش تسميه «تهريب وتسلل» المقاتلين المتطرفين إلى العراق عبر الأراضي السورية.
بل أكثر من ذلك. يمكن اعتبار رد واشنطن على ما جرى الإشارة الأكثر دلالة حتى الساعة على تخليها عن المالكي، الذي تحرك كما يظهر بدافع من امتعاض من مفاوضة الأميركيين للبعثيين اللاجئين إلى سوريا مباشرة وليس من خلال حكومته. ويعتبر هذا الاستياء أحد الأسباب الرئيسية لتعثر استكمال المصالحة الوطنية العراقية، لأن رئيس الوزراء العتيد يخشى على ما يبدو من أن تؤدي عودة البعثيين للحياة السياسة إلى لملمة السنّة في جبهة واحدة كبيرة تحرمه من فرصة اللعب على التناقضات في ما بينهم.
خشية فاقمت من حدتها خطوات أقدم عليها المالكي في وقت سابق تتهدد فرص عودته إلى منصبه، في مقدمتها مغادرته الائتلاف الشيعي الموحد، بعدما فشل في التوصل مع الأطراف الأخرى المكوّنة له إلى حصة تضمن له أن يكون مرشح القائمة إلى رئاسة الحكومة. ومعروف أن «المجلس الأعلى»، وبخاصة القيادي فيه عادل عبد المهدي (النائب الحالي للرئيس)، لا شك في أنه سيستشرس خلف هذا المنصب الذي ضاع منه مرتين لمصلحة الدعويين (المرة الأولى كانت لإبراهيم الجعفري).
هناك أيضاً صدام المالكي مع الحزبين الكرديين الرئيسيين في إطار الصراع على صلاحية الحكومة المركزية وحكومة كردستان، وعلى انتشار البشمركة في المناطق التي يعتبرها العرب خارج حدود الإقليم الكردي.
خطوات لا شك في أنها قلّصت خيارات المالكي، وجعلت استعادته لرئاسة الحكومة في أعقاب الانتخابات العامة أوائل العام المقبل رهن قدرته على استقطاب أصوات سنة «الصحوات»، وأكراد حزب التغيير (الذي يحتل 25 من المقاعد الـ111 لبرلمان كردستان)، بالإضافة إلى التيارات العلمانية واليسارية والقومية التي نجح، في الانتخابات المحلية الأخيرة، في دفعها إلى التصويت لقائمة دولة القانون التي يتزعمها تحت شعارين: الإنجاز الأمني، والخطاب الوطني اللامذهبي والتحالفات العابرة للطوائف.

إدارة أوباما لا تزال تراهن على الحصان السوري في إطار رؤيتها للمنطقة

كان واضحاً للمالكي، على الأرجح، أن الركيزة الأولى لفوزه الانتخابي السابق قد تحطمت مع ما دمّر في الهجمات التي استهدفت وزارات الخارجية والدفاع والمالية، وعودة الجدران الإسمنتية إلى بغداد، بعد أسابيع قليلة من بدء العمل على إزالتها. وأن الركيزة الثانية تتهددها عودة البعثيين للحياة السياسية، مع تسارع حركة الوفود الأمنية الأميركية إلى دمشق.
ولعل هذا ما يفسر لاعقلانية الاتهام العراقي لسوريا، غداة توقيع اتفاق استراتيجي متعدد المجالات معها، رغم أن صورتها (كجهة تؤوي الإرهابيين وتدعم عملهم في العراق!) لم تكن قد تغيرت، ورغم رفضها تسليم بغداد لائحة من عشرات الأسماء البعثية التي طالب بها المالكي خلال وجوده في دمشق، وكرر المطالبة بعد حصول التفجيرات.
بل ربما يفسر أيضاً لامنطقية الإجراءات؛ من الإعلان بُعيد الأحداث الدامية عن اعتقال بعض منفذيها (من قال ليس هناك جهابذة في أجهزة الاستخبارات العراقية التي لم تكشف منفذاً لأي من التفجيرات التي أغرقت بلاد الرافدين منذ غزو عام 2003؟)؛ إلى تعدد الروايات الأمنية في شأن الجهة المسؤولة، بين قائل بأنهم البعثيون العراقيون المقيمون في سوريا، ومؤكد أن تنظيم «القاعدة» الذي تبنى التفجيرات رسمياً؛ إلى بث «الاعترافات» عبر شاشات التلفزة والمسارعة إلى سحب السفير والمطالبة بتحقيق ومحكمة دوليين، كما جرى في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، علماً بأن حبر الاتفاقات الأمنية التي تضع آلية لتبادل تسليم المجرمين والمتهمين بين بغداد ودمشق، لم يكن قد جفّ بعد.
بيان مجلس الرئاسة كان بالغ الأهمية في هذا الإطار. الدليل الأبرز على عزلة المالكي، الذي قضت عليه خطيئته في تجاهله حقيقة أن غول الطائفية ومصالح الجماعات العرقية والمذهبية لا يزال ينهش بالجسم العراقي.