محمد زبيبليس هناك مساءلة في لبنان. هذه حقيقة معروفة... وبالتالي لن يضطر وزير العدل إبراهيم نجّار، ومسؤولون آخرون معنيون، إلى تقديم أي أجوبة، مهما كانت، عن سبب إصرارهم السابق على إنكار وجود شبهة «التعامل مع إسرائيل» في ملف محطة الباروك.
هناك كثر دخلوا على الخط لتظهير هذا الملف على صورة مغايرة لصورته، كانوا متطوعين لقيادة حملة تشكيك منظّمة، إلا أنها تجاوزت كثيراً مجرد الرغبة بالنيل من صدقية وزير الاتصالات جبران باسيل في ملف يتسم بهذه الحساسية، فتضليل الرأي العام استمر حتى اللحظة الأخيرة، أي حتى لحظة ادّعاء مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية القاضي رهيف رمضان على 6 أشخاص (5 موقوفون وسادس فارّ) وإحالتهم على قاضي التحقيق العسكري الأول رشيد مزهر بتهمة انتهاك قانون مقاطعة إسرائيل، وهي تهمة مخفّفة تتخذ بعداً تجارياً أكثر مما هو سياسي أو أمني.
هل سيُسألون عن ذلك؟ طبعاً لا، لن يمثل أيٌّ منهم أمام القاضي الذي سيصدر أحكامه بمعزل عن كل ما قيل على المنابر الإعلامية قبل ظهور نتائج التحقيقات... فهل كان الهدف منع إعلان هذه النتائج؟ هل كان الهدف منع إجراء هذه التحقيقات أصلاً؟ لماذا؟ ولحساب من؟ ولأي أهداف؟
لقد تدرّجت إعلانات وزير العدل من نفي وجود محطة إنترنت غير شرعية في الباروك وإعلانه أن الأمر يتعلق بعمود إرسال تملكه محطة تلفزيونية... إلى إقراره بوجود محطة إنترنت وتخابر غير شرعي وأن «التحقيقات الجارية لم تُثبت أن هناك تعاملاً مع إسرائيل»... وصولاً إلى الصمت المطبق، إذ لم يُسمَع له أي موقف بعدما وضع القضاء العسكري يده على هذا الملف متأخّراً.
لا يمكن المتدخّلين في هذا الملف أن يدّعوا جهلهم بالمعطيات التي كانت بحوزة وزارة الاتصالات ومديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني والنيابة العامّة وفروع عدّة من الأجهزة الأمنية والعدلية... فمثل هذا الادّعاء يعدّ، في الحدّ الأدنى، دليلاً على التدخّل السافر في عمل القضاء، إذ كيف يمكن مَن تنقصه المعطيات أن يُدلي بدلوه ويجزم بعدم صحّة الاتهامات؟ علماً بأنّ المعطيات المتداولة منذ البداية هي نفسها التي خلصت إليها التحقيقات عندما وضع القضاء العسكري يده على الملف، وهي تفيد بأن أصحاب المحطة المذكورة أقدموا على شراء معدّات إسرائيلية مخصصة لتقديم خدمة الإنترنت على نحو غير شرعي في لبنان، وهم كانوا على علم بمصدر هذه المعدّات، وأدخلوها إلى لبنان بطريقة غير شرعية أيضاً، وعمدوا إلى تركيبها في محطة الباروك وربطوها بمحطات موجودة في إسرائيل، وباعوا خدماتها إلى لبنانيين وحققوا من خلال ذلك أرباحاً غير مشروعة.
100 ألف مشترك على الإنترنت غير الشرعي يسددون أكثر من 3 ملايين دولار شهرياً
هذه المعطيات كانت جديرة بتحريك القضاء منذ 5 أشهر، لكن ذلك لم يحصل إلا بعد فترة من السجالات المريبة، وهي فترة كانت كافية للتشويش على مجمل الملف ومضامينه ودلالاته... والأهم أنها كانت كافية لتحويل تهمة بحجم «التعامل مع العدو» إلى حالة عرضية تحتمل «التشكيك» و «اللعب السياسي»، وهذا ما انعكس برودة لافتة في تعامل الناس عموماً مع فضيحة اكتشاف معدّات إسرائيلية في معمل نفايات صيدا، فضلاً عن تحلّي البعض بجرأة الدفاع عن بعض الموقوفين المشتبه في تورّطهم بشبكات التجسس والإرهاب الإسرائيلية المنتشرة في كل مكان من لبنان.
المساءلة غير مطروحة حتماً... لكن ملف محطّة الباروك يكشف أيضاً عن مدى تعمّق ثقافة الفساد في لبنان، فالسجالات التي احتدمت على خلفية شبهة التعامل مع العدو، جعلت من جريمة سرقة المال العام تهمة ثانوية، أو بالأحرى حوّلتها إلى نشاط هامشي لا يستدعي أي اتهام أو مقاضاة... ففي ذروة هذه السجالات كان السياسيون يتقصّدون عدم النطق بأي عبارة تدين مثل هذا «النشاط»، بل عمدوا إلى بذل جهد كبير لتبريره. وفي ذروة السجالات أيضاً، كان القضاء يقوم بحفظ ملفات 10 شركات أحالتها وزارة الاتصالات إليه بتهمة التخابر الدولي غير الشرعي، إذ رأى القاضي المعني بهذه الملفات أنها لا تتضمن أدلة دامغة على التهمة، علماً بأنه لم يطلب أي معلومات إضافية من الوزارة، ولم يطلب مثول أحد منها أمامه!
فوزير الاتصالات كان قبل أشهر عدّة قد أمر بتوقيف 10 خطوط E1، يمكن استعمالها في إمرار مخابرات دولية واردة وصادرة من دون المرور عبر مقسّمات الوزارة... وجاء ذلك بعدما كلّف باسيل فريقاً تقنياً مراقبة هذه الخطوط، إذ تبيّن أن 7 ملايين و864 ألفاً و436 مخابرة دولية جرت عبرها في شهر تموز وحده، بمعدّل يتجاوز 9 دقائق للمخابرة الواحدة، ما أسهم بتفويت أكثر من نصف مليون دولار شهرياً على الخزينة العامّة!
قد لا تكون هذه الأرقام بمثابة أدلّة دامغة للاتهام، لكن ماذا لو كانت هذه الخطوط مسجّلة بأسماء مؤسسات وهمية أو مؤسسات صغيرة لا يمكن أن تكون بحاجة إلى هذه الكمية من التخابر الدولي في أعمالها المصرّح عنها؟ ففندق «فرنسيس» مثلاً! وهو فندق لا يعرفه أحد، ومع ذلك جرت من خلاله 92 ألفاً و858 مخابرة مدّتها مليونا و138 ألفاً و562 دقيقة، بمعدّل 12.26 دقيقة للمخابرة الواحدة... وهذا ينطبق على فندق آخر مغمور يدعى فندق الغابة في الشبانية الذي جرت عبره 71 ألفاً و747 مخابرة مدّتها 562 ألفاً و497 دقيقة بمعدل 7.84 دقيقة للمخابرة الواحدة... فضلاً عن أن 4 خطوط E1 مسجّلة باسم شركة واحدة في الجديدة، وبقية الخطوط ممنوحة لشركات ـــــ دكاكين لا يمكنها أن تبرر حجم الاتصالات الدولية الجارية عبرها!
لم ينظر القضاء في هذه المعطيات، أو لم يجدها كافية لتوجيه اتهام بسرقة المال العام، كذلك لم يأخذ بمعطيات أخرى كارتفاع معدّل التخابر عبر مقسّمات «أوجيرو» بنحو 400 ألف دقيقة في اليوم بعد توقيف الخطوط المذكورة.
* ملاحظة: تقدّر وزارة الاتصالات أن هناك أكثر من 100 ألف مشترك على الإنترنت يسددون أكثر من 3 ملايين دولار بدل اشتراكاتهم لشركات غير مرخّصة أو لشركات مرخّصة تزوّدهم خدمة الإنترنت من مصادر غير شرعية من إسرائيل أو قبرص أو سوريا... ويتهم وزير الاتصالات موظّفين في وزارته مدعومين من قوى سياسية نافذة بعرقلة توزيع «السعات الدولية» على الشركات النظامية لتعميم الإنترنت من مصادره الشرعية.
كل ذلك لا يستدعي المساءلة! كل ذلك يفرض التخلّص من جبران باسيل!