نمو الودائع غير مرتبط بالداخلتحمل المصارف التجاريّة أكثر من 56% من مجمل الدَّين العام، هذه النسبة مرتفعة بكل المقاييس، وهي تؤكّد مدى ترسّخ علاقة «الزواج» بين القطاع المصرفي والنموذج السياسي والاقتصادي القائم. لكن لكي تستمرّ العجلة بالدوران، من الضروري استمرار تدفّق الودائع مهما بلغت الكلفة، وهذا ما دفع بخبراء من صندوق النقد الدولي للدعوة إلى خفض الاعتماد على الخارج وتطوير «قدرات الجذب الداخليّة»يتّضح من مراقبة توظيفات المصارف التجارية أنّ أكثر من 55% منها مخصّصة لتمويل الدولة بشكل أو بآخر: التسليفات المباشرة والودائع لدى مصرف لبنان، هذه هي نتيجة العلاقة التي نشأت بين القطاع المصرفي والدولة بعد انتهاء الحرب في بداية تسعينيّات القرن الماضي، وقد أظهرت التجارب الماضية أن استمرار هذه العلاقة محكوم أساساً باستمرار تدفّق الودائع «بكرم» إلى المصارف.
هذا ما تحاول أن تدرسه ورقة بحثيّة بعنوان «لبنان ـــــ محدّدات ودائع المصارف التجاريّة في مركز مالي إقليمي» أعدّها أخيراً الخبيران هيرالد فينغر وهيكو هيسّيه لصندوق النقد الدولي، وشملت 50 مصرفاً في لبنان.
الاستنتاج الأساسي للورقة هو أنّ إحداثيّات القطاع الخارجي مهمّة جداً لضمان التدفّقات اللازمة لمراكمة الودائع، إلا أنّها تمثّل في الوقت نفسه «عامل هشاشة»، لأنّ أيّ تقصير في نشاط هذا القطاع، ناتج من «تراجع في نمط النموّ في منطقة الخليج العربي» و«انخفاض وتيرة النشاط الاقتصادي في البلدان المتطورة»، سينعكس مباشرة على مستوى الودائع.
ويقول معدّا الدراسة إنّهما حاولا «تقديم بعض البراهين العلميّة لبحث محفّزات (تدفّق) الودائع إلى النظام المصرفي اللبناني». ويعتمدان في دراسة تلك البراهين على نماذج ماكرواقتصاديّة داخليّة، أي في لبنان، قائمة على النشاط الاقتصادي والأسعار ومعدّلات الفائدة، ويأخذان كذلك في الاعتبار العوامل الخارجيّة وضمنها «الدورات الاقتصاديّة في البلدان المتقدّمة ووفر الأرصدة في بلدان مجلس التعاون الخليجي وأوضاع الأسواق الماليّة العالميّة».

احتياجات حسّاسة

تقول الورقة إن الأموال الخارجيّة التي تستمرّ بتغذية النظام المصرفي تنبع من مصدرين: الأوّل هو تحويلات المغتربين التي تجاوزت قيمتها 6 مليارات دولار في العام الماضي، ممثّلة أكثر من 22% من الناتج المحلّي الإجمالي. والمصدر الرئيسي لتلك الأموال هو بلدان مجلس التعاون الخليجي (54%) وأوستراليا (7%) والولايات المتّحدة (6%) وكندا (3%). وتتوصّل الدراسة إلى وجود «علاقة معيّنة منذ عام 2000 بين النموّ في منطقة الخليج ونموّ الودائع في النظام المصرفي اللبناني».
يجب توجيه السياسة الماليّة أكثر نحو تحقيق تعديلات جوهريّة
أمّا المصدر الثاني فهو الأموال الإقليميّة التي تبحث عن الملجأ الآمن، وتلك الأموال ازدادت طبعاً بعد الأزمة الماليّة التي أرخت بظلالها على بلدان المنطقة.
بقي هذا التدفّق سمة تقليديّة حتّى خلال الأزمة الماليّة العالميّة، وذلك بسبب طبيعة النظام المحافظة. وبحسب تقرير جمعيّة المصارف، فإنّ تدفّق الودائع استمرّ بقوّة خلال النصف الأوّل من العام الجاري «وسجّلت تحويلات بمبالغ هامّة فاقت 4 مليارات دولار»، ويُشير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى أنّه خلال 12 شهراً بلغت قيمة التدفقات نحو 16 مليار دولار.
ويُعدّ هذا التدفّق أساسياً لتمويل احتياجات الدولة المتزايدة، وخصوصاً أنّ الدين العام (المعترف به رسمياً) سيبلغ 52 مليار دولار، وفقاً لتحذيرات وزير المال محمّد شطح، وسترتفع فائدته إلى أكثر من 4 مليارات دولار (6 تريليونات ليرة) لتمثّل أكثر من 37% من النفقات العامّة بحسب مشروع موازنة عام 2009.
وتفنّد الدراسة العوامل التي من شأنها أن تؤثّر أساساً على مستوى تدفّق الودائع، وهي كالآتي: 1ـــــ المخاطر الخاصّة بلبنان، أي المخاطر السياسيّة والاقتصاديّة. 2ـــــ الدورة الاقتصاديّة في البلدان المتقدّمة، فالنشاط الاقتصادي الجيّد يعني ارتفاع نسبة التحويلات. 3 ـــــ توافر الأرصدة في منطقة الخليج العربي. 4 ـــــ عاملا الهشاشة والسيولة في النظام العالمي، اللذان يؤثّران جدياً على توجّهات المتموّلين الدوليّين ورغبتهم بإيداع الأموال.

مميّزات وحذر

ربما لم يحافظ لبنان على مرتبته الماليّة التي طالما اشتهر بها، إلا أنّ مميّزات نظامه المصرفي تغري رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم. فمن جهة، هناك السرية المصرفيّة، ومن جهة أخرى الطابع المحافظ للصناعة المصرفيّة. وهذه الميزة الأخيرة نتاج حتميّ للاعتماد المتبادل بين المصارف والدولة، والنتيجة بحسب الورقة «هي نظام مالي أصبح معتمداً على التوسّع المستمرّ في قيمة الودائع»، وخصوصاً أنّ «معدّل الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي يفوق 160% وهو من بين الأعلى في العالم».
ويرتبط استمرار هذه المميزات باستدامة العوامل الجاذبة للودائع. وفي هذا الصدد تقول الدراسة إنّ «المتغيّرات الداخليّة والخارجيّة تعدّ مهمّة، ولكن المعادلات والتحليلات تخصّ العوامل الخارجيّة بثقل أكبر». وهذه الأهميّة توضح «هشاشة خطيرة في لبنان»، إذ ليست هناك أيّة تأثيرات لبنانيّة على تلك العوامل، فيما أيّة تطوّرات سلبيّة تطرأ عليها «تجعل النظام المصرفي اللبناني عرضة لتباطؤ في تدفّق رؤوس الأموال، ما يقوّض فعلياً ظروف تمويل احتياجات الحكومة».
ومن هذا المنطلق، تقول الدراسة، تنبع أهميّة «استمرار الحذر في السياسات الماكرو اقتصاديّة وتلك المتعلّقة بالقطاع المالي»، بمعنى آخر «يجب توجيه السياسة الماليّة أكثر نحو تحقيق تعديلات جوهريّة والمساعدة على خفض العجز العام، إضافة إلى كبح نموّ معدّل الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي».
وبهذه الطريقة، تقول الورقة، يمكن «القضاء تدريجاً على اعتماد النظام اللبناني على تدفّق الودائع».

السياسة المناسبة

وبموازاة تلك الإجراءات، هناك أهميّة خاصّة للسياسة النقديّة، إذ تركّز الدراسة في هذا السياق على ضرورة «الحفاظ على هامش فائدة تفضيلي كافٍ للدولار الأميركي للاستمرار في دعم نموّ الودائع بأنماط مريحة».
وهناك دور إضافي للسياسات الماليّة في عمليّة خفض الاعتماد على الخارج، وهو الحفاظ على سلامة القطاع المصرفي لكي تستمر العوامل الخاصّة بالمصارف بدعم «جاذبيّة إيداع الأموال في لبنان». ومن أهمّ تلك السياسات «تشجيع استقرار المصارف على صعيد منفرد وتطوير مخفّفات صدمات السيولة»، علماً بأن «السماح بمعدّلات فائدة صحيّة سيساعد المصارف على جذب الودائع».
(الأخبار)


324 في المئة

هو معدّل الودائع في القطاع المصرفي اللبناني إلى الناتج المحلّي الإجمالي، وهو من بين الأكبر بين البلدان النامية بحسب الدراسة، ويشير إلى النموّ الكبير الذي يشهده النظام المصرفي.


عوامل السلامة الخاصّة