فادي عبّود *مرّ خبر تراجع لبنان 7 مراتب في تقرير «مزاولة الأعمال 2010» مرور الكرام، ولم يثر أيّ استنكار أو تساؤل لدى أحد من الأطراف اللبنانيين، كأن هذا الخبر لا يعني المجتمع اللبناني من قريب ولا من بعيد، علماً بأن لبنان تراجع على سلّم سهولة مزاولة الأعمال إلى المرتبة 108 بين 183 بلداً تناولها هذا التقرير الصادر عن البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية. كذلك مرّ تحقيق نشرته جريدة «الأخبار» تحت عنوان «مزاجيّة الجمارك وإبداعات DHL» من دون أي تعليق أو ردّ من أي جهة معنية، علماً بأنه يفضح الاستنسابية في تخليص البريد السريع وبدعة إذن التسليم والمعاملات الجمركية، التي تكلّف أحياناً أكثر من قيمة المستورد نفسه.
يجب أن نتوقف مليّاً أمام هذه المعطيات ونحلّل واقع بيئة الأعمال في لبنان. فهل استفاد لبنان فعلياً من الأزمة المالية وهروب رؤوس الأموال من الغرب؟ وهل استطاع اجتذاب جزء من الاستثمارات عبر تحسين بيئة الأعمال بهدف جذب المستثمر؟
نعود بالذاكرة إلى مرحلة غير بعيدة حاول فيها الوزير جهاد أزعور تخفيف أكلاف التصدير، كما حاول الرئيس فؤاد السنيورة الاستغناء عن لجان التخمين من خلال تسعير العقارات على جميع الأراضي اللبنانية، إلا أن هذه المحاولات لم تؤدّ إلى أي نتيجة، ولم تثمر عن تحرك عام لإخراج بيئة العمل من دائرة الفساد والرشى والمحسوبيات.
إن غياب الشفافية يكبّد الشركات في لبنان وقتاً وجهداً ومالاً. فقد تصل أكلاف المصاريف غير المنظورة والرشى إلى نسبة 2% من حجم أعمال الشركات الصغيرة، وهو رقم مخيف، ويبرر التراجع الذي حققه لبنان.
والمضحك في تقرير مزاولة الأعمال أن المؤشّر الوحيد الذي شهد تطوّراً إيجابياً في لبنان كان «تسديد الضرائب»، إذ حلّ لبنان في المرتبة 34 عالمياً متقدّماً 12 مركزاً. فهل يستطيع لبنان أن يستمر في سياسة ضرائبية تعاقب المواطن والمنتج معاً، وتكافئ من يكدّس أمواله في المصارف رافضاً القيام بأي استتثمار يخلق فرص عمل في لبنان، فيما يُتغاضى عن «الاقتصاد الأسود» الذي يشهد حركة أعمال بالملايين، وهي غير مسجلة في المالية ولا في الضمان؟ والأغرب هو استمرار السماح للمستوردين باستيراد كميات تجارية حتى من دون أن يكونوا مسجّلين لدى الضريبة على القيمة المضافة.
كنا قد طالبنا مراراً بإنشاء «المجلس الأعلى للتنافسية» بهدف دراسة المعاملات الإدارية واعتماد آليات شفّافة تقطع الطريق أمام الفساد، والإشراف على إعادة صياغة النظم (Procedures)... وهذا يفرض أن تكون صلاحيات المجلس فوق صلاحيات الوزراء في ما يتعلق بالإجراءات والآليات المتّبعة في كل الوزارات والدوائر، حتى الأمنية منها.
عزل الفاسدين لن يحصل إلا بإقفال الدكاكين وتغيير آليات الاستمرار
هذا الإجراء يفتح الطريق نحو بيئة أعمال متقدمة في لبنان، تحفظ حقوق المستثمر ولا تخيفه، ولا تتركه في غابة من المعاملات الإدارية غير المحددة والمصاريف الخاضعة لاستنسابية الموظف ومزاجه... فمثلاً، عملية التصدير والاستيراد مهندسة خصوصاً لفتح باب الاستنساب، إذ تعتمد أساليب أصبحت غير معتمدة في العالم، ولا تتناسب مع كون لبنان عضواً مراقباً في منظمة التجارة العالمية... كما أن عملية الاستحصال على الرخص (البناء، الإنشاء، الإسكان، بئر ماء، سلاح، استثمار مصنع أو مطعم أو فندق، بيع كحول وغيرها الكثير) هي عملية غامضة وأكلافها غير محددة، ولا غنى عن السمسار للحصول عليها.
هذا الواقع ينطبق أيضاً على الضمان الاجتماعي والآليات المعتمدة فيه التي تؤثر سلباً على بيئة الأعمال من دون أن تعطي المضمون حقّه، كما ينطبق على تسجيل العقارات، ولا سيما أن رسم الرخصة ورسم تسجيل العقار يرتبطان بلجنة تخمين تتمتع باستنسابية لافتة... وهناك رسوم تسجيل السيارات المعقّدة (جمرك، رسم استهلاك، VAT )، والاستنسابية في تحديد رسوم السيارات المستعملة ورخص النقل ووضع اسم الشركة على الآلية.
ولا تقف الأمور عند هذا الحد. فالمصارف، على الرغم من الثناء الذي تناله، تعتمد الغموض في نسب الفوائد وملحقاتها والعمولات والأكلاف المخفية، ما يجعل كلفة التمويل الحقيقية مرتفعة جداً.
وتطول لائحة الأمثلة، وليس هناك أي تصوّر مستقبلي لتحسين الصورة. فمحاربة الفساد لا تكون بالشعارات فقط، ولا تحصل إلا عبر عزل الفاسدين، كما قال الرئيس ميشال سليمان، لكن عزل الفاسدين لن يحصل إلا من خلال إقفال الدكاكين وتغيير الآليات والممارسات التي تسمح لهؤلاء بالاستمرار في إفساد الإدارات العامة والخاصة على السواء.
إن لكل مواطن ومستثمر الحق في الحصول على المعلومات المرتبطة بالشأن العام، وبات من الضروري إصدار قانون حرية الحصول على المعلومات وإصدار قانون شفّاف للمناقصات العامة وإلزام كل من يستفيد من المال العام بنشر حساباته والإجابة على أي سؤال من أي مواطن بشفافية تامة.
الفساد يدمّر إمكان تطوير مجتمعنا واقتصادنا، ويمنع تحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد تنافسي، إذ تقدر الكلفة اليومية للفساد بأكثر من ثلاثة ملايين دولار، وتصل إلى حوالى مليار دولار سنوياً، وبالتالي فإن تراجع مرتبة لبنان في بيئة الأعمال يجب أن تمثّل إنذاراً وحافزاً للجميع لإطلاق ورشة الإصلاح ومنح الحكومة المقبلة اسم «حكومة الإصلاح الوطني» بدلاً من «حكومة الوحدة الوطنية»، فلا قيمة لأي وحدة في ظل بلد ينهار اقتصادياً.
لم نسمع من أي طرف من الأطراف أنه يحمل خطة إصلاحية لمواجهة الفساد حتى اليوم، خطّة متكاملة واضحة بوسائلها وأهدافها لا مجموعة من الشعارات، فنحن نحتاج فعلاً إلى مشروع جاد وحقيقي يدخل في تفاصيل الرخص والاستيراد والتصدير والضمان... ليتكمن من انتشال لبنان من التدهور الحاصل.
* رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين