ماكينات البروباغندا هدرت بقوة بعدما خسر فاروق حسني معركة الأونيسكو. استعانت بكل المخزون القديم من توصيفات الشيطان الإمبريالي الذي قاد مؤامرة ضد حضارة بكاملها. لم يتخيّل حتى أقرب أصدقاء حسني أنه سيتحوّل إلى بطل قومي تبكي الأمة هزيمته

طيران بأجنحة ... الميديوكر



وائل عبد الفتاح
أثار سقوط فاروق حسني الحماسة. حماسة من نوع قديم جداً. خليط من التعاطف والشعور بالخسارة والصدمة. إنها مشاعر طبيعية ومتوقّعة. الأوراق مختلطة إلى حدّ كبير، واللعب على العواطف الكبرى كان نغمة رنّانة في الإعلام الحكومي. هستيريا وميل جماعي إلى الدخول في معركة مع العالم لانتزاع مكان. نرجسية تخرج من هزيمة إلى هزيمة. هزيمة لا تصدّق نفسها ولا تعرف إمكاناتها ولا تعمل من أجل صنع بطولة. تكتفي بتشغيل أسطوانة الاستشهاد والتضحية والمؤامرة المحبوكة.
اكتفاء عاطفي لافت للنظر. العجز فيه قدَر، واليأس من كسر الدائرة يعطّل العقل. هكذا، بين يوم وليلة، تحوّل فاروق حسني إلى بطل مهزوم بالغدر، وخسارته تحولت إلى مؤامرة ضدّ مصر والعروبة والإسلام. هنا تكمن الحكاية التي تستحق التأمّل.
لم يفكر أحد في سؤال بسيط: ماذا لدى فاروق حسني ليقدّمه إلى ثقافة العالم في المنظمة الدولية للثقافة والعلوم؟ ما هو الباب الذي سيفتحه بين الثقافة العربية والعالم ليتغير الهواء المتوقف عن الحركة؟ هل لديه شيء غير مجدٍ غابر؟
التفكير كلّه يدور في صياغة الهزيمة لترضي كل هذا الإفراط في العواطف. كيف تحوّل فاروق حسني إلى بطل العروبة والإسلام المهزوم، وضحية مؤامرات الدول الكبرى والتعصّب الدولي؟ فاروق حسني شخص ذكي، يجيد إدارة نفسه، لكنه لم يكن يوماً ممثلاً لشيء أبعد من طموحه الشخصي. إنها ميزة أحياناً لا عيب. وقد رأت صحف حكومية مصرية، أنّ هزيمة فاروق حسني دليل على استبعاد للحضارة الإسلامية. صحف أخرى تعاملت مع الموضوع على اعتبار أنّ حسني كان مندوب العروبة المغدور، أو البطل المصري الذي دفع ثمن مواقفه البطولية في مواجهة الصهيونية. إنّها أوهام الحماسة المشتاقة إلى انتصار. أوهام باحثة عن بطولة ما.
لم تكن هذه الدورة المرة الأولى التي يخسر فيها مرشح مصري منصب المدير العام للأونيسكو. في الانتخابات الماضية، خسر الدكتور إسماعيل سراج الدين، لأسباب كثيرة من بينها حسابات سياسية للنظام المصري الذي فضّل أن يمنح صوته لمرشّح السعودية. هل كانت هذه خيانة وطنية؟ الفارق بين الدكتور سراج الدين وفاروق حسني أنّ الأوّل كان يحمل مشروعه الفكري، وكان مشروعاً محل تقدير من دول كثيرة، ومثار خلاف وجدل بين المثقفين حول فكرة «بنك الفقراء». أمّا فاروق حسني، فهو مرشح نظام الرئيس حسني مبارك. ولهذا السبب، قاتل النظام بكل قواه، ووظّف شبكات علاقاته المعلنة وغير المعلنة وكل رجاله وحساباته السياسية والمالية (بعضها من رجال أعمال تحمّسوا للمرشح المصري، وبعضهم نفّذ تعليمات عليا).
كانت معركة الأونيسكو معركة النظام. استفاد منها هذا النظام استفادة كبيرة، أولاً في أنّه حشد خلفه أصواتاً وتيارات كثيرة تعاطفت مع ما جرى تصويره على أنه «مؤامرة صهيونية ـــــ أميركية». أسهمت المعركة في تجميل النظام وأظهرته بصورة المحارب المخدوع في معركة الحضارات. لكنها معركة مميزة للنظام. معركة لا تشبه مونديال كرة القدم ولا غيره من هزائم وخيبات. ربّما لأنّها معركة شخص طموح لا يُهزَم بسهولة. يدير نفسه ببراعة جعلته يستمر في موقعه ٢٢ عاماً، ويتحول من وزير محل خلاف، إلى أمر واقع يبحث الناس عن مزايا يتعاملون بها معه بعدما فقدوا الأمل في تغييره أو التخلص من سياساته. بالمناسبة، ما هي سياساته؟ ليست ثقافية على أي حال. إنها خدمات بارعة. لا تخلو من فتنة. فتنة القادر على احتواء المثقفين في «حظيرة» الدولة، وعلى تحويل الثقافة إلى ملعب أضواء باهرة. «الاحتفال» هو النصف الثاني من فتنة فاروق حسني القادر بأضواء مواسمه الثقافية على الإيحاء بدور كبير لمصر في العالم العربي.
فتنة فاروق حسني في أنه يؤدي الأدوار الصعبة بأسلوب مختلف. لا هو ارستقراطية الموظفين الكبار من أصحاب الرسالات الكبرى مثل ثروت عكاشة، ولا هو الأكاديمي المحافظ على وقاره الذي كافأته الوزارة وقدّرته مثل الدكتور أحمد هيكل، آخر وزير قبل حسني.
لكن كل ذلك يبقى نجاحاً محلياً. افتقد فاروق حسني شروطاً كثيرة تجعله ينتصر في معركة الحسابات السياسية. افتقد المهارات الخاصة بمدير الأونيسكو. بعضها يمكن اعتبارها ثانوية، لكنها مهمة للمنصب، وهو عدم إجادته اللغة الإنكليزية (منافسته الفائزة تجيد لغات أكثر وهذا يعني اطّلاعها على ثقافات أوسع، كما أنها مؤهلة تأهيلاً علمياً وثقافياً ولم تقدم نفسها على أنها ممثلة ثقافة مضطهدة).
السبب المهم أيضاً هو أنّ المسافة بين فاروق حسني ونظامه، ليست كبيرة. ارتبطت صورة الرجل بالرقابة على الكتب، ويكفي أن نتذكر معركة «الروايات الثلاث» حين صادر الروايات وهاجمها في مجلس الشعب واتهمها بأنها «روايات بورنو». أمثلة تدلّ على أنّ حسني لم يكن وزيراً بعقلية رقيب، بل كان وزيراً مذعوراً يدير الثقافة بمنطق الخوف لا الشجاعة. شجاعته الوحيدة تتجلى في معارك الحفاظ على الكرسيّ، وبصراعاته مع منافسين من داخل وزارته أو من الشلّة المحيطة بالرئيس. في عهد فاروق حسني، تكرّس مبدأ المصادرة بالابتزاز. آخر هذه المشاهد حدث عندما هاجم متعصّب مسيحي كتاباً عن المعلّم يعقوب، فسحبت وزارة الثقافة الكتاب من الأسواق كما فعلت عندما هاجم شاعر مسلم دواوين الشاعر والأديب اللبناني أنسي الحاج فأصدر المسؤول قراراً بسحبها من الأسواق، وتفاخر علناً بقرار المصادرة.
الأمثلة كثيرة وكبيرة عن عقلية المصادرة (منها مثلاً أن رواية زوربا للأديب اليوناني كازنتزاكس لا تزال مصادرة في معارض الكتاب، إلى جانب قائمة من كتب لا تسمح وزارة فاروق حسني بتداولها). هذه العقلية المذعورة تصلح محلياً، وتناسب مواءمات سياسية صغيرة لكنها لا تسند مرشحاً في معركة دولية تحتاج إلى أشياء أصبحت عزيزة بعد الثبات الطويل تحت استبداد يطير بأجنحة الميديوكر. طيران يصلح فقط للأجواء المحلية.

الثقة في تصدير الفشل



لماذا دخل نظام مبارك مقامرة الأونيسكو؟ وهي مقامرة لأنه لا يمكن تصدير «الفشل» إلى عالم منتبه. النظام تصوّر أن هذه سنة مناسبة، لأن الاتجاه العام كان نحو تفضيل مدير عربي للمنظمة


على طريقته، تصوّر نظام مبارك أنه ليس مهماً الشخص ما دامت رغبة وصول «المختلف» موجودة. أدار المعركة بثقة الواثق من تحالفاته. لم يغيّر أسلوبه واختار الأقرب إلى الرئاسة. المرشح المصري كان مجرد موظف محلي كبير لا مؤهلات لديه سوى الحفاظ على كرسيه زمناً طويلاً، وهذه تحسب ميزة وعيباً في الوقت نفسه. ميزة لأن طول فترة الإدارة أكسبه مهارات وكفاءات خاصة. وعيب لأنها تربطه بنظام مرتبك سياسياً، يمارس نوعاً مميزاً من الاستبداد الناعم. نظام ينتمي إلى الدكتاتورية العسكرية بمفهوم الخمسينيات والستينيات، لكنه يرتدي اليوم ملابس مدنية تغطي طابعه العسكري. نظام يعترف بتعدد الأحزاب والأديان والمعتقدات، لكنه يمارس سلوكيات ضد اعترافه. فهو نظام الحزب الواحد والدين الواحد والمعتقد الواحد.
كل مؤهلات فاروق حسني هي خدمة هذا النظام الغريب في استبداده. خدمة تتطلب نظرة ثقافية بهلوانية تحقق النجاح في الجمع بين المتناقضات، لا بمنطق إبداعي لكن بمنطق مربك.
فاروق حسني بالنسبة إلى المثقفين القوميين من رواد «التطبيع» الثقافي، أما الإسرائيليون فلا يتذكرون له سوى تصريحاته عن «حرق الكتب الإسرائيلية».
أين موقف فاروق حسني ورؤيته الثقافية؟ لا يمكن أن تعرف إجابة محددة. كما لا يمكن معرفة موقفه من قضية حرية الإبداع والتعبير ولا أي قضايا أخرى.
ما هي مؤهلاته؟ الكفاءة مستبعدة في معارك ذهنية العواطف والأمجاد الأبدية. ومعركة الأونيسكو لا تكفي فيها نظرية «العشم» السياسي أو إدارتها على طريقة «والله زمان يا سلاحي».
والنظام بالفعل أخرج أسلحته القديمة كلها وجنّد إمكاناته وعواطف العشرات (حتى من معارضيه) في معركة صوّرتها أجهزة إعلامه على أنها معركة ضد القوى الصهيونية والإمبريالية، متفقاً بذلك مع خصومه بمن فيهم الإخوان المسلمون.
كلهم اتفقوا على المرارة من المؤامرة الدولية. مرارة أضيفت إلى فصول التعاسة الوطنية وألغت العقل وسارت وراء عواطف وظّفتها بوعي أو من دون وعي أجهزة النظام.
والغريب أن هؤلاء المخلصين لعواطف وطنية جياشة حين أزاحوا العقل قليلاً فكروا في الانسحاب من الأونيسكو رداً على عنصرية العالم. وهذه قراءة عجيبة تنسى مثلاً أن مصر وغيرها من الدول، هي التي تحتاج إلى الأونيسكو لا العكس.
الأونيسكو أنقذت معابد وآثاراً غارقة في أسوان والنوبة وغيرها. الأونيسكو أيضاً هي التي أرادت حماية القلعة وآثاراً أخرى من قرارات فاروق حسني ورجاله أو رجال النظام.
كيف يمكن انتخاب وزير ثقافة خرجت أعداد كبيرة من الآثار في عهده من قائمة الأونيسكو اعتراضاً على طريقة الترميم؟

خطّة «ارمِ وراء ظهرك»


قالها الرئيس وأراح وزيره: «ارمِ وراء ظهرك». هكذا بكل بساطة وهدوء وحكمة. هكذا تنتهي معركة سياسية خاضتها الدولة بثقلها السياسي (إن كان موجوداً) وبأموالها ومسؤوليها الكبار.
معركة انتهت بالخسارة، وهذا ليس مهماً في حدّ ذاته. المهم هو الرغبة في أن تنتهي من دون حساب. إنها العادة والمنهج الذي يلخّصه الرئيس بالحكمة المعروفة عنه: ارم وراء ظهرك. لماذا ينصح الرئيس وزيره بأن ينسى الهزيمة؟
هل هو البحث عن تفاؤل والنظر إلى المستقبل؟ أم هو الميكانيزم الذي يدير به الرئيس دولته؟ في دول الاستبداد، هناك كراهية متعمدة لفكرة المحاسبة. شعور بأن المحاسبة تعني الانتقاص من المسؤولية. والمسؤولية في الديكتاتوريات الصريحة ليست محل كلام أو نزاع.
لا يحب الرئيس في دول الاستبداد المحاسبة. وليس غريباً أنّ كل الأجهزة الرقابية، التي اخترعتها العقول السياسية في العالم، تعَطَّل في مصر، وتوضَع دائماً تحت إدارة الرئيس وإمرته.
الديكتاتوريات ترى أنّ الحكم حقّ إلهي، والآلهة وأنصاف الآلهة لا يحاسبون، والوحيد الذي من حقه أن يحاسب ويسأل ويقرّر هو الرئيس. ولهذا شعر فاروق حسني باطمئنان عندما قال له الرئيس: ارم وراء ظهرك.
ارم وراء ظهرك. أوروبا كلّها تغيّرت بفكرة مناقضة تماماً: انظر وراءك بغضب.
مَن اختار فاروق حسني مرشحاً للأونيسكو؟ الوزير يقول إن الرئيس اختاره، والمعلومات المتسربة تشير إلى أنه هو من سعى وخطّط لتكون المنظمة الدولية هي مقره الوحيد بعد ٢٢ سنة قضاها في الوزارة. وحتى هذه اللحظة، لم يعلن النظام أنه شكّل لجنة للتحقيق في اختيار فاروق حسني، ولا في الفريق المعاون ولا حول الميزانية التي أنفقت عليه.
المشكلة أنّ فاروق حسني فاقد الصلاحية ولأسباب تردّدت بقوة في كواليس الأونيسكو: عمره ٧١ سنة ولا يعمل أكثر من ٤ ساعات يومياً. انشغل بمعاركه في الداخل ولم يخرج إلى العالم الذي لم يتعرّف عليه طوال ٢٢ عاماً.
أسباب تتعلق بالصلاحية المهنية لا السياسية. كان يمكن المعركة المهنية أن تحسم (أو أن تساهم في حسم) المعركة السياسية إذا كان المرشح يمتلك صلاحية للمنصب. ولو كانت مصر قد اختارت مرشحاً مختلفاً، لكانت النتيجة اختلفت.
لا بد من الإجابة عن سؤال: من اختار المرشح الخطأ؟ ومن سيتحمل مسؤولية السمعة المهدورة والأموال الضائعة؟ خسر فاروق حسني لأنه ابن نظام «ارم وراء ظهرك». إنه نظام لا يفكر ولا يحاسب. وكأن الهزيمة والخسارة عادية.
لكنها للأسف ليست عادية وليست بأموال الرئيس ولا مرشحيه ولا حاشيته. إنها هزيمة يدفع المصريون ثمنها.