بغداد ــ زيد الزبيديتتردّد عبارة «مَن لم تتلطخ أيديهم بدماء العراقيين»، وخصوصاً عند الحديث عن «المصالحة الوطنية» الجارية على يد «المصلح» الأميركي في بلاد الرافدين. ولكنّ أياً من المسؤولين العراقيين، لم يقل، أو حتى يهمس، بأن الطرف الأميركي هو أكثر من تلطّخت أيديه بدماء العراقيين، بل بلغ الأمر برئيس الوزراء نوري المالكي إلى القول أخيراً، إن «الأميركيين لن يتحاوروا مع قتلة جنودهم»، وذلك خلال وضعه إكليل زهور في مقبرة قتلى الاحتلال خلال زيارته الأميركية، وكأنهم هم أهل الدار الذين قتلهم «المحتلون العراقيون».
ويطلق ساسة «العراق الجديد»، تصريحات أو مصطلحات تصبح مع الوقت «موضة الموسم»، مثل «الديموقراطية التوافقية»، و«الشفافية»، و«أعداء العراق»، و«تحالف الأصدقاء»، ولعل أهم تلك المصطلحات هي «العملية السياسية»، التي تكاد تكون صورة لما كان مألوفاً بـ«الإيمان بمبادئ الحزب والثورة»، وهنا تعني «الإيمان بالواقع الذي فرضه الاحتلال».
وضمن هذا «الإيمان»، تأتي «المصالحة الوطنية»، فمن لا يؤمن بـ«العملية السياسية»، لا مكان له في تلك «المصالحة»، التي لا يعرف العراقيون حتى الآن بين مَن ومَن تجري.
ويؤكد عدد من المراقبين السياسيين أن المصالحة يفترض أن تحصل بين أطراف متنازعة، كالمصالحة بين حزبي الرئيسين جلال الطالباني ومسعود البرزاني، مثلاً، أو المصالحة التي تمت في السبعينات بين الشيوعيين والبعثيين والحركة الكردية.
وهنا يذكر المراقبون كم من دماء آلاف العراقيين سالت جراء صراعات تلك الجهات، ولم يقل أحد آنذاك: «يُستثنى من المصالحة مَن تلطّخت أيديهم بدماء العراقيين».
وبحسب المعايشين للواقع العراقي، فإن القادة الأكراد، عندما تفاوضوا و«رقصوا» مع نظام صدام حسين عام 1991، لم يذكر أحد منهم مجزرة حلبجة أو «قتل البرزانيين» أو «القصف الكيماوي»، بينما ظهر المتهم الأول بالمجازر، علي حسن المجيد، في صور تذكارية وهو يرقص الدبكة الكردية مع جلال الطالباني وغيره من القادة الأكراد.

المصالحة يفترض أن تحصل بين أطراف متنازعة لا بين أتباع الاحتلال وأتباع الاحتلال
ويتابع المراقبون السياسيون بدهشة، اليوم، تداول مصطلح «المصالحة مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء العراقيين»، الذين ضمّ إليهم المالكي، الأميركيين، متسائلين عما إذا كان يفترَض أن تحصل المصالحة بين أتباع الاحتلال وأتباع الاحتلال؟
وفي الطرف المقابل، هناك من يرفض أي حوار مع أنصار «العملية السياسية»، لاتهامهم بالعمل على تكريس الاحتلال، الذي جلب كل الويلات للعراق وأهله.
والسؤال الكبير الذي يطرحه المواطن العادي يبقى: ألم تتلطخ أيدي أحزاب الحكومة وميليشياتها من دون استثناء، بدماء العراقيين؟ أم أن أكثر من مليون شخص جرت تصفيتهم ببشاعة، بتهمة معارضة أو معاداة «العملية السياسية» والاحتلال، هم من الدخلاء الذين قدموا من كوكب آخر؟
وفي رأي عدد من المراقبين السياسيين، فإن كل الأحزاب والجهات التي كانت تدعي أنها تحارب النظام السابق، «تلطخت» أيديها بدماء العراقيين، فهي كانت تقتل الضباط والجنود ومن يقع تحت أيديها ممن كانوا محسوبين على النظام الحاكم، حتى بلغ الأمر حدّ القتل العشوائي في أعقاب حرب 1991، فاستُهدف بشكل خاص العسكريون المنسحبون من جبهة القتال، ونهبت ممتلكات الدولة، وقُتل الموظفون في دوائرهم الحكومية، وعوائلهم وأقرباؤهم.
أما في عهد الاحتلال، فالأرقام هي التي تتحدث عمّن قتل العراقيين، إلى جانب قوات الاحتلال «التي يريد المالكي أن يثأر لقتلاها»، حيث ذكر «مركز صقر للدراسات»، وهو مركز دراسات عراقي، بعض جوانب المشهد العراقي بعد 6 سنوات من الاحتلال، ومنها: مليون أرملة حتى أواخر عام 2008 استناداً إلى إحصائية رسمية لوزارة المرأة. 4 ملايين يتيم بحسب وزارة التخطيط. أكثر من مليوني قتيل وفق وزارة الصحة والطب العدلي. 800 ألف مفقود لا يعرف أهلهم عنهم شيئاً حتى اليوم. 340 ألف عراقي اعتقلوا في السجون الأميركية والعراقية بحسب إحصائيات مرصد حقوق الإنسان، من بينهم 120 ألفاً اعتقلتهم القوات الأميركية ثم أطلقت سراح غالبيتهم، لكن السلطات الحكومية أعادت اعتقالهم. أكثر من 40 في المئة من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر. البنية التحتية الصناعية والاقتصادية مدمّرة تماماً. تدهور في مستوى التعليم أدّى إلى اتخاذ منظمة «اليونسكو» قراراً برفض الاعتراف بشهادات الجامعات العراقية. انتشار المخدرات بين طبقة الشباب بصورة غير مسبوقة باعتراف وزارة الصحة. أكثر من 4 ملايين مهجّر ونازح... كل ذلك فيما تغيب التقديرات الدقيقة عن خسائر العراق المالية أثناء فترة الغزو والاحتلال، لكنها تصل بحسب بعض المراقبين إلى 3 آلاف مليار دولار.
ويرى أحد المحللين السياسيين أن «إلقاء مسؤولية البؤس القائم في العراق على الأميركيين وحدهم هو موقف لا قيمة له، لأن ثمة آخرين لا يقلون مسؤولية عنهم، وهم أولئك الذين عملوا في ظل الاحتلال وأداروا الحكومات تحت ولايته».