عبد الحليم فضل اللهلا يمكن أي حكومة قادمة أن تواجه التحديات برؤى ساكنة، فمن شأن ذلك عرقلة خطواتها وإعادة إنتاج الأزمات بزخم أقوى. سياسات الفائدة المرتفعة مثال على ذلك، ففيها استئناف لأخطاء التسعينات التي ضخّمت الدين العام، وضاعفت من كلفته، والمبرر في الحالتين واحد، وهو امتصاص السيولة ومساعدة المصارف على توظيف فائض الأموال المتراكم لديها حتى تتمكن من استقبال المزيد من الأموال. وهذه الدائرة المغلقة غريبة بعض الشيء، فارتفاع الفوائد يؤدي إلى تضخيم الدين، لكن تخصيص موارد كافية لخدمة هذا الدين يتطلب فائدة مرتفعة، وهلمّ جراً..
الرائج اليوم هو نشر الأنباء الجيدة وخصوصاً بشأن فعّالية الإجراءات النقدية ذات الطابع المحافظ، وقد يكون ذلك صحيحاً إذا كان المقصود النجاح في تلافي تداعيات الأزمة العالمية. وسواء كان هذا النجاح بسبب الإجراءات الاستباقية للمصرف المركزي، أو لأن القطاع المالي في لبنان لم يتعلّم بعد كيفية الانخراط في ألاعيب الصناعة المصرفية الحديثة، فإن المشهد في لبنان أوسع من ذلك، وهو مليء بصعوبات وإخفاقات وأمور كثيرة تدعو إلى القلق.
والتشاؤم أو التفاؤل على أي حال يرتبط بطريقة قراءة الأرقام وتحليل الوقائع وعقد المقارنات، فوفرة الأموال على سبيل المثال لا تعني الكثير ما لم تتحول إلى رأسمال إنتاجي أو اجتماعي وما لم نلمس صداها على صعد الخدمات العامة وسوق العمل ونتائج الميزان التجاري. كما لا أهمية تذكر لزيادة تحويلات المغتربين وتغذية حسابات الودائع ما لم يكن لها دور في ردم الفجوة بين الدخل والاستهلاك وزيادة الميل إلى الادخار وتعزيز الطلب على السلع الاستثمارية.
الأموال الوافدة بكثافة كانت الغطاء لتأجيل البحث عن حلول خلّاقة
السؤال المتعلق بالدين العام هو إذاً سؤال مركّب من مكوّنين مالي واقتصادي، ويمكن طرحه بطريقتين: كيف يمكن معالجة الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والتعامل بفعالية مع تدني جودة البنية الأساسية، دون أن يؤدي ذلك إلى إلحاق الضرر بأوضاع المالية العامة؟ أو: كيف يمكن التخفيف من عبء المديونية والعجز دون أن ينعكس ذلك سلباً على توزيع الموارد وعلى الاستقرار الاجتماعي واحتمالات نمو القطاعات الإنتاجية وتقدمها.
حتى الآن ليس هناك رؤية واضحة للتعامل مع التحديات على هذا النحو المتكامل، التجزئة كانت السبيل الأفضل لصانعي القرار لتجنّب التنازلات المؤلمة. والأموال الوافدة بكثافة من الخارج كانت الغطاء المناسب لتأجيل البحث عن حلول خلّاقة وشجاعة، والتركيز من ثمّ على تلبية الالتزامات والاستحقاقات السنوية لا على حجم الأزمة وخطورتها.
مع ذلك هناك أكثر من مقاربة تجول في أروقة القرار في لبنان، بشأن المفاضلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي، و أيضاً بين تغذية حسابات الخزينة وتأمين المنافع العامة. فهناك أولاً مقاربة البنك الدولي التي تولي اهتماماً خاصاً لمسألتي الفقر والخدمات الأساسية. هذا ينسجم مع الخط العام للبنك الذي بات يركّز على التنمية البشرية والحضرية، وعلى الحماية الاجتماعية وإدارة المخاطر، مع إيلاء اهتمام خاص بمسائل التعليم والطاقة والمياه. لكن لبنان في استراتيجيات البنك يمثّل إلى حد ما حالة استثنائية، كما يظهر من رفضه خيار خصخصة قطاع الطاقة، وتشجيعه على توسيع الضمانات الاجتماعية لتشمل فئات إضافية، والتركيز على الجانب الاجتماعي في معالجة ذيول حرب تموز. وتبدو مقاربة البنك الدولي محكومة للتوازن ما بين الشأنين المالي والنقدي والشؤون الاقتصادية والاجتماعية الأخرى.
ليس هناك بطبيعة الحال تضارب بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، المحكومين بالتوافق في ظل مبدأ المشروطية المتبادلة. لكن لدى الصندوق رؤية مختلفة بعض الشيء. فهو لا يزال يعوّل على الترابط ما بين القطاع المصرفي والمالية العامة. وبالنسبة إليه ينبغي أن تنصبّ الجهود على خفض كلفة الاستدانة لا الحد من الاستدانة نفسها، وعلى تقليص الفارق بين النفقات والإيرادات الحكومية إلى أدنى حد ممكن وبأي ثمن، حتى لو استلزم ذلك نقل العبء من القطاع المالي إلى القطاعات الأخرى. ولا تتّسم تقارير المادة الرابعة بالشفافية الكافية، وهي تميل إلى دعم وجهة النظر الحكومية وتعزيزها رغم جولات الاستماع التي تقوم بها وتشمل أطرافاً عدة.
المقاربة الثالثة هي التي وردت في الورقة المقدمة إلى مؤتمر باريس 3، وحاولت الجمع بين المقاربتين الآنفتين مع ميل واضح إلى رؤية صندوق النقد. لا بد من إخضاع هذه الورقة للبحث مجدداً، وخصوصاً مبدأ أن يكون التوازن المالي محوراً لسائر التوازنات. الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية لا تبدو جدية في الورقة، وقد بدت في بعض الأحيان كثمن لا بد من تأديته لإمرار المقترحات المالية الباهظة الكلفة. تشغل الخصخصة مكاناً مركزياً في الخطة، فهي سياسة قائمة بذاتها وهي أيضاً شرط لإطلاق السياسات الأخرى وتحقيق الإصلاحات الموعودة، لكن التطورات تجاوزت كل ذلك. لقد أخفقت الحكومة حتى الآن في تحقيق أيّ من أهدافها المعلنة، كما أن السلطة النقدية التي نجحت في الحفاظ على استقرار سوق صرف العملة الوطنية تجاه الدولار وساعدت على تمتين القاعدة التمويلية للمصارف، لم تحقق النجاح نفسه في مجالات أخرى مثل كبح جماح التضخم والمساعدة على تحقيق النمو. وإزاء ذلك لا بد من بناء توافق وطني على رؤية جديدة، لا تقل فيها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية أهميةً عن المشكلة المالية، وتعتمد توزيعاً جديداً للأدوار بين الفاعلين الأساسيين، من شأنه تحسين موقع الحكومة في معادلة تمويل الدين العام التي يتحكم فيها المصرف المركزي وائتلاف المصارف التجارية الكبيرة، وتعزيز حضور العمال بين أطراف الإنتاج، واستعادة التوازن بين المؤسسات الاحتكارية والمؤسسات الصغيرة التي تمثّل الجزء الأكبر من الاقتصاد لكنها تعمل في شروط سيئة وحافلة بالمخاطر.