strong>يمكن تقويم وضعيّة القطاع المصرفي في لبنان من منطلقات عديدة، ولكن في بعض الأحيان يكون التصنيف الذي تطلقه «الوكالات المتخصّصة» غامضاً، ما يسمح لـ«الإعلام» بأن يركّز على الشكل وينسى المضمون. وهذا ما حدث أخيراً«أحداث أمنيّة»، «تأليف حكومة»، «استقرار نسبي»، «موسم سياحي نشيط»، «مناكفات سياسيّة»... تطوّرات تثير في معظم بلدان العالم، وخصوصاً تلك التي تنتعش على هامش الهشاشة المصرفيّة وتتردّى أوضاعها في هوّاتها، ردّات فعل على الصعيدين الاقتصادي والمالي.
في لبنان الصدى يكون مضاعفاً لسبب بسيط هو أنّ الاقتصاد الحقيقي غير موجود بهوامش كبيرة وبحسب المقاييس النسبيّة والمطلقة، لذا فإنّ الصمود في أوقات الأزمات يعكسه استقرار النظام المصرفي، الذي تتأثّر ودائعه باطمئنان المغتربين والباحثين إلى واحات الأموال والسريّة المصرفيّة، وتتأثّر أرباحه بداء الدولة نظراً لأنّها مصدر رزقه الرئيسي، وربما شبه الوحيد.
عندما كان لبنان منهاراً، في ثمانينيّات القرن الماضي، كان النظام ثابتاً، وازدهر بعد الحرب الأهليّة مستفيداً من فساد التوليفة السياسية ـــــ الاقتصاديّة ـــــ الأمنيّة. وهذا الازدهار مستمرّ بأرباح مرتفعة باطّراد (البنوك الثلاثة الكبيرة ربحت 335 مليون دولار في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري)، ولكن التقويم قد يصبح سجين «الترويج».
أحد التصنيفات الأخيرة للنظام المصرفي اللبناني أصدرته مؤسّسة «Fitch» في حزيران الماضي، تضمّن معلومات «إيجابيّة» وفقاً للتقارير الإعلاميّة التي نشرتها رغم أنّ المضمون يحفّز على الكثير من التساؤلات.

مستوى المخاطر

تضارب في تقرير «Fitch» الأخير: صلابة أم هشاشة؟
«Fitch» قالت إنّ النظام المصرفي اللبناني مصنّف في مجموعة تضمّ 30 نظاماً مصرفياً تتمتّع بـ«مستوى منخفض من الهشاشة المحتملة»، وتأتي في المراتب العليا من مؤشّر الوكالة المختص بالحذر الماكرو اقتصادي (Macro Prudential Indicator). ولتركيب هذا المؤشّر يجري تقويم إمكان تكرار أحداث سلبيّة شهدها القطاع المصرفي في الماضي، وما هي الإجراءات التي اتُّخذت لاحتوائها.
وحصل لبنان على درجة «1» على سلّم المؤشّر، فيما الدرجة «3» تعني مستوى مرتفعاً جداً إزاء التعرّض للأزمات الهيكلية. ولكن؟
التقارير الإعلاميّة التي نشرت نتائج تقرير التقويم لم تركّز على جانب آخر أكثر أهميّة يجب معالجته وعدم إهماله لكي لا يغرق النظام في وحول المديح غير الموضوعي عبر الإعلام الذي يؤثّر كثيراً في الرأي العام.
تقرير الوكالة الذي شمل 86 نظاماً مصرفياً في بلدان ناشئة ومتطوّرة، شدّد على أنّ النظام المصرفي اللبناني يتبع للفئة «D». وللإيضاح فإنّ الفئة «A» تعكس وضعاً «قوياً جداً بنوعيّة عالية» للنظام المصرفي فيما تنتمي إلى الفئة «E» المصارف التي تعدّ نوعيّتها ضعيفة جداً.
زملاء لبنان في مجموعته كانوا تونس والمغرب ونيجيريا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA Region) وروسيا والصين وهنغاريا والفيليبين وإيرلندا، إضافةً إلى بلدان أخرى في مجموعة الدول النامية.
كما لفت التقرير إلى أنّ 75% من الأنظمة المصرفيّة للبلدان النامية موجودة في الفئتين «C» و«D» وأنّ 25% من تلك الأنظمة موجودة في الفئة «E».
«عموماً يجب النظر جيّداً إلى تقارير وكالات التصنيف» نظراً إلى التوجّهات التي قد تتضمّنها أو الاجتهادات التي قد ترتبط بها، ولهذا يحذّر وزير المال الأسبق جورج قرم في تعليق للـ«الأخبار» من دور وكالات التصنيف عموماً.
ولكن حتّى إن كانت تلك الوكالات صادقة مع نفسها (أي إنّ تقويمها بعيد عن عقدة النبوءات الاقتصاديّة) فإنّ المعلومة تصل في النهاية «إيجابيّة مهما يكن»، وهذا يضرّ أيضاً بالنظام المصرفي الذي من المفترض أن يكون التقرير الإعلامي «يقدّم خدمة إليه، كما إلى العملاء».
وعلى سبيل المثال، هناك التقريران اللذان أصدرتهما «Fitch» الأسبوع الماضي لتقويم أداء «بنك لبنان والمهجر» و«بنك بيبلوس». فرغم أنّ المصرفين يتمتّعان بربحيّة مميّزة وبصمود في ظلّ الاضطرابات الماليّة العالميّة، فإنّهما يبقيان خاضعين لخطورة مرتفعة المستوى هي نفسها التي تعدّ شريان الحياة لأرباحهما الخياليّة.
فبحسب التقرير تمثّل الأوراق الماليّة الحكوميّة (سندات الخزينة) 50% من موازنة المصرفين، فيما تنخفض حصّة القروض إلى 20% وحصّة الودائع بين المصارف (Interbank Deposits) إلى 30% بالنسبة إلى «بنك لبنان والمهجر».

مواطن الضعف

هذا المعطى يُفترض أن يمثّل حافزاً يدفع النظام المصرفي اللبناني نحو تمتين مواقعه بعيداً من مواطن الضعف المذكورة، ويفترض أيضاً ضرورة مواجهة النمط السائد من التبجيل لكي «يكون» النظام سداً منيعاً لا نمراً من ورق رغم الشوائب الكثيرة والهيكليّة التي تحكم تركيبة البلاد الاقتصاديّة والسياسيّة.
كما تبرز أهميّة تحديد المقاربة التي تقدّمها وكالات التصنيف وكيفيّة تقديمها نهائياً إلى الجمهور، الذي هو في النهاية من يقدّم الودائع ويسحب القروض حين ينتهي القطاع العام من إشباع حاجاته المتوقّع أن تستمرّ في الارتفاع نظراً إلى استمرار النموّ في الدين العام والتزاماته.
فمع تطوّر الأحداث السياسيّة في لبنان تتغيرّ البيئة النقديّة والماليّة والاقتصاديّة. ففي آب من العام الماضي، أي بعد ثلاثة أشهر من أحداث أيّار وتشنّجاتها واتفاق الدوحة وانتخاب رئيس جمهوريّة جديد، حسّنت وكالة التصنيف الدوليّة «Standard & Poors» تصنيفها للدين اللبناني الطويل المدى من «+CCC» إلى «-B»، وقالت إنّ «اتفاق الدوحة خفض خطر أن يسحب المودعون أموالهم من القطاع المصرفي، وبالتالي يخفض مخاطر تمويل الاحتياجات الحكوميّة في المدى القصير، حيث إنّ المصارف هي المقرض الأوّل للحكومة بمستويات واسعة».
وفي عام 2007 كانت وكالة التصنيف الائتماني «Moody’s» قد حذّرت من التلكّؤ الذي يحكم عمليّة إصلاح أداء الحكومة المالي والإصلاحات الاقتصاديّة المطلوبة. وقالت إنّ المصارف اللبنانيّة تعاني ضعفاً هيكلياً في ربحيّتها نظراً إلى ارتباط عائداتها من الفائدة أساساً بالديون السياديّة، أي الديون الحكوميّة. وأضافت إنّ اعتماد المصارف في عائداتها على المدفوعات الحكوميّة «يهدّد العائدات الإجماليّة» لتلك المصارف، وخصوصاً إذا كان تصنيف الديون السياديّة منخفضاً.