Strong>وائل عبد الفتاح«الرجل الغامض بسلامته»، أغنية خفيفة ترددها أجيال المصريين خلف سعاد حسني. لكنهم لا يلحظون أن في مصر يتحرك أكثر من رجل غامض تحت أجنحة الضباب السياسي، لكنهم ليسوا بمثل هذه الخفة والطرافة. هم رجال يديرون الحاضر باتجاه مستقبل سيصدم الجميع. ويحملون في جيوبهم شهوات لا حدود لها

■ مبشّرون وسنّيدة



أيمن نور أعلن: «لن ألعب دور السنيد (مرافق البطل في الأفلام السينمائية) مع جمال مبارك في انتخابات 2011». الوقت مناسب تماماً لمثل هذا الإعلان. آخرون لم يعلنوا، لكنهم يبحثون عن الدور، بينما المعارض الذي يبحث عن أرض له بعد الخروج من السجن يحاول الدخول إلى المنافسة عبر النفي لا التأكيد. فالمعروف أن الشروط القانونية لانضمام أيمن نور إلى سباق الرئاسة محل اختلاف ومراجعات، لكنه في إطار التشبث بالوجود يختار المبالغة.
إعلان أيمن نور جاء في وقت واحد مع تصريح للبابا شنودة رأى فيه أنه «لا أحد في مصر يمكنه منافسة جمال مبارك»، وهو التالي بعد تصريح سابق لبطريرك الأقباط في مصر أكد فيه ما معناه أن «المصريين يحبّون جمال مبارك».
تصريح البطريرك هو تبشير بوصول ابن الرئيس إلى الرئاسة بدعم من الكنيسة وما تضمه من كتلة مسيحية تقليدية ترى في جمال مبارك نموذجاً مقبولاً، وخصوصاً أن وجوده سيعني الاقتراب أكثر من أصحاب الأموال، والأقباط بينهم نسبة لا يستهان بها. رؤية براغماتية يتصدرها البابا للمرة الأولى منذ اشتعال حرب الخلافة والوريث منذ أكثر من ٧ سنوات، كأنه يحجز لنفسه وللكنيسة موقعاً في «خلطة» الحكم الجديدة.
المبشرون ليسوا فقط من نوع البابا. ملك من ملوك الإعلانات طرح السؤال كأنه إعلان: «من غير جمال مبارك؟». ولم ينتظر إجابة، استمر في الترويج: «يا ليتكم ترونه وهو يتحدث في الاقتصاد. أؤكد لكم (كان يتحدث بين أصدقاء له، ومعهم كتّاب وصحافيون لا يعرفهم) أنه إذا تحدث جمال مبارك مع أي خبير اقتصادي فسيتفوق عليه. أنا رأيته والتقيت به وأعرف كيف يفكر».
ملك الإعلانات يرى أن رئيس مصر المقبل لا بد أن يكون «اقتصادياً». يقولها كأنها جملة من الجمل المنحوتة في إعلاناته أو حقيقة مطلقة هبطت عليه من السماء أو شعار يختزل الوطنية في جملة لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها أبداً.
ملك الإعلانات تولّى ترويج بعض سياسات جمال مبارك بالفعل في الصحف والقنوات التلفزيونية. ويبدو مسؤولاً عن صنع المظهر الحديث للحزب، بداية من الألوان إلى اختيار العبارات وصور الرئيس وابنه وغيرها من أدوات لم يكن الحزب الحاكم بصوره القديمة يعتمد عليها.
أيمن نور، وهو يعلن إصراره (وتحديه) على خوض انتخابات الرئاسة سأله صحافي عن فرص النجاح أو ما شابه في مواجهة زحف التوريث، فأشار إلى أنه «لا يمكن الحديث عن التوريث في ظل وجود زويل». وهو يقصد الدكتور أحمد زويل، الحائز جائزة نوبل في الكيمياء، الذي تضعه ترشيحات شعبية ضمن قائمة من شخصيات تمثّل كل منها قيمة مفقودة.
زويل ليس اختياراً سياسياً، لكنه تعبير عن شوق الناس إلى نموذج للنجاح وكسر الحدود بإنجازات كبيرة. وهو مصدر فخر كثيرين من البسطاء المواجهين بفرص ضيقة وأسوار تحجز خلفها أصحاب المواهب الكبيرة. صورة زويل عند الناس هي صورة المغامر الذي تحدى الظروف وحقق «نصراً» عالميّاً. سيرة الشخص الصغير في طريق الصعود إلى قمة الشهرة. قد يأتي أيضاً إنجازه العلمي في الأسباب المحتملة. لكن فكرة تسجيل انتصار لمصر في الخارج، ربما كانت أول سبب في وضع اسم زويل في قائمة تضم أيضاً رئيس هيئة الطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي، التي انتشرت أنباء عن ترشيح حزب «الوفد» له، بعد انتهاء فترة رئاسته للهيئة الدولية.
زويل والبرادعي هما تعبير عن الرغبة في «قوة» خارج سيطرة النظام، تمثّل حضوراً عالمياً وهي بعيدة عن التلوث السياسي. هكذا يطرح اسم المستشار جودت الملط، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات. ويراه الناس محارباً لديناصورات النفوذ في مؤسسات الدولة، ومعبّراً عن أمل في تطهير أجهزة سقطت طويلاً أسيرة الفساد. هذه الصورة تحذف وتضيف كل يوم منها أسماء، لكنها تظل معبرة عن «احتجاج» أكثر من كونها اختياراً سياسيّاً. هي بحث عن شخصيات ضد النقائص وينتصرون من داخل المنظومة المريضة، كما فعل الدكتور محمد غنيم، الذي استطاع بإمكانات قليلة إنشاء أشهر مركز طبي لعلاج الكلى في مدينة تبعد عن العاصمة ١٢٠ كيلومتراً، ويضعه في مصاف المراكز العلمية المتقدمة في علاج المرض الذي يصيب أعداداً كبيرة من المصريين نتيجة تلوث الماء والافتقار إلى شروط الصحة الأولية.
هذه أشواق وأحلام تتجسد في شخصيات. لكن الفيلم لا يزال بعيداً عن أشواق الجمهور. لا تزال شركات التبشير والدعاية تبحث عن سنيد يزيل الغبار المتوقع عن انتخابات الرئيس المقبلة.
قائمة السنيد تتسع وتضيق حسب الظروف السياسية. هناك من ينسحب أو يتراجع بعد اتفاق غير معلن. وهناك من يعرض نفسه، وهناك من يعزز اسمه ليحصل على أجر أكبر.

■ الحالم بالمقعد الأوّل



هذه قصة الرجل الأول في مصر. الراوي احتاج إلى توضيحات ليعرف المستمعون أنه يقصد الرجل الأول في المستقبل ويزيد الوضوح بأن هذه أحلامه لا الواقع. الراوي تفلسف قبل السرد: «لا أرغب في فضيحته، لكنه نتاج عصر كامل من اللعب السري».
إنه ليس استثناءً في عصر زواج المال والسياسة، لكنه الأذكى والأقدر مالياً. الذكاء والمال سلاحان يُستخدمان عادة في قصص من هذا النوع، لكن مع الحالم بمقعد الرجل الأول، الأمر يختلف.
هو يعرف جيداً ما يفتقده، بداية من الجاذبية الاجتماعية والكاريزما الجماهيرية، لكنه تعلم فن الإدارة. عاش في الظل طويلاً، لكنه عندما قرر القفز إلى أعلى، لم تكن قفزات بسيطة، كانت درساً في الركوب على الأكتاف لتعويض نقصان الطول الجسدي... ركوب أنيق.
هدفه لم يكن ما قاله في البداية «أريد تعلم السياسة». قالها ولم يدفع لرجال في البيزنس مهدوا له أول الطريق ليصبح رجل أعمال، وليس مجرد صاحب شركة صغيرة. لكنه دفع عندما زار رجلاً كبيراً في «الحزب» كان يعرف أنه يحب نظام الحقائب.
الرجل مهد له الطريق إلى مجلس الشعب ومنها عرف كيف يتصل بمن هم أكبر. أدرك بذكاء أن الحقائب لم تعد كافية. فسافر إلى سويسرا وعاد ولم يخبر أحداً، بما في ذلك الرجل الكبير، الذي تسلم بعدها إشعار إضافة إلى حسابه... فابتسم وابتدأ القرب.
القرب أدخل الحالم بمقعد الرجل الأول في «تركيبة» أخرى. صحيح أنها قريبة من «الكبير»، إلا أنها لا تعبّر عن مدى اتصاله الحقيقي ولا أحلامه التي تجعله يمد خيوط الاتصال بالخارج. هكذا بعيداً عن الأعين المتلصصة على كل شاردة وواردة.
قفزت الثروة على نحو خرافي لا يمكن تصديقه نظرياً. وفتح له كنز احتكار صناعة استراتيجية لم يفهم أحد من المقربين لماذا يلتهم السوق وحده؟ ولم يكن أحد يمتلك الإجابة لأن السؤال ليس دقيقاً، فهو ليس وحده، إنه يدير أموال الرجل الكبير، وهذا سر الموافقة على استحواذه على شركة كان يرأس مجلس إدارتها.
ليس وحده. لكنه لعب على شبق الرجل الكبير للأموال ليبقى قريباً ومخلصاً في صمت، متحملاً الهجوم الشرس عليه باعتباره «عدو الشعب». اللعب على الشبق واحدة من مهاراته، وخصوصاً أنه يعرف كيف يستخدم سلاح المال في كل مكان من البرلمان إلى الحزب وحتى المدرسة الخاصة التي يرأس مجلس إدارتها وتربطه بنخبة مهمة من مليارديرات البلد. يصرف فيه ببذخ وتكتب مكاتب استشارية أميركيّة خطبته في حفل التخرج، بينما يهندس مواعيده الغرامية ويفضل الزواج على المغامرة، جامعاً بين أكثر من زوجة في قصوره المتعددة.
يحلم بالوصول إلى مقعد الرجل الأول بعد جولات يتحرك فيها بالمال والخطة السرية لكي يكون كل شيء في يده؛ الخارج والقوى المتصارعة مستخدماً سلاح ثروات ضمان المستقبل في إبعاد أصحاب القوة. أما أصحاب النفوذ فيعرف منذ الآن أين وكيف سيقضي عليهم؟ انتظروه.

■ الوسيط في المنفى الملتبسهذه نهاية من نهايات «الرجل الغامض» الذي يتباهى دائماً بوضوحه. ظل سنوات طويلة المحامي أو المتحدث باسم أو الوسيط بين الأمن وأمراء الجماعة. ترك منتصر الزيات الجماعة سنة 1984.
يسمي منتصر الزيات مرحلة ما قبل اغتيال السادات «مراهقة سياسية». اعتُقل مرات عدة، آخرها في 1994 وكانت صورته في نظر المراقبين هي «الوسيط حامل التكليفات من قادة السجن إلى كوادر الخارج».
لم تنقطع العلاقة بين منتصر والجماعة تحت شعار رفعه هو «أنا منهم... وهم مني». ورغم أنه أدى دور الوسيط إلى عام 2000، زمن خروج أول قيادة من القيادات التاريخية للجماعة. ساعتها توقف منتصر عن حمل الرسائل، لكن الغموض استمر.
صورة منتصر ظلّت ملتبسة، فهو محامي الجماعة، لكن الأمن يسمح له بما لا يسمح لآخرين. ومنتصر يبدو مثل شخصيات مغضوب عليها في التراجيديا كلما اقتربت من منطقة أُحرقت. يتقدم بأوراق حزب سياسي (الاتحاد من أجل الحرية) فيتهرب منه الحلفاء. وفي انتخابات نقيب المحامين يضطر للانسحاب، وفي نادي الزمالك يحرم من فكرة الاندماج لكونه شخصية بعيدة عن التصاقه الخالد بالجماعة.
يبدو منتصر مقاوماً للتراجيديا وواقعاً في ميلودراما ثقيلة، حيث يكتب مرة «أبحث عن وطن». ويقول: «أبحث عن وطن يؤويني في منفى باختياري أقضيه. في بلد عربي من بلاد العروبة أقضي فيها أيامي الكئيبة وأعيش فيه بلا فكر ولا رأي ولا قضية. أعيش فيه كالهوام أو الدواب. فقط أحتاج فيه إلى ما يحتاج إليه الحي من نفقة أو طعام وكسوة. أبحث عن وطن ليس فيه مؤامرات ولا اتهامات بالتطرف أو الخيانة، أريد أن أعيش بلا قضية لئلا أتهم بأنني بعت القضية».
الحس المليودرامي لا يليق برجل غامض يرقص على حبال ملف حساس مثل التطرف الديني. ويتحرك في عالم ملغوم بين أمراء عنف ووحوش أمن. يحيطهم جمهور مراهق من متطرفين تحت التمرين وصحافيين ووسط سياسي محبط. كيف سيعيش الرجل الغامض بدون غموضه؟
لماذا اختار الدوحة مكاناًَ للمنفى ورفع ديموقراطيتها في مقابل قمع القاهرة، وهي مقارنة مزعجة لنظام مبارك؟ قد تكون جولة من جولات إحياء الدور الغائب. وقد تكون صيحة خلاص وانفلات لا يسمعها أحد.