بحناجرهم الواعدة، استطاع أعضاء «فرقة الاستقلال» الذين لا يزيد عمر أكبرهم على 15 عاماً، أن يفتحوا لأنفسهم نافذة في جدار حياة المخيم، خرجوا عبرها ليحلّقوا بجوانحهم النامية للتو في فضاء، على قربه من المخيم، إلا أنه أوسع وأرحب من المكان الذي هم فيه
عين الحلوة ـــ سوزان هاشم
هم مجرد 9 فتيان، ضاقت عليهم بيوتهم في عين الحلوة، فخرجوا يفتشون عن فسحة إضافية للتنفس ولتحقيق النزر اليسير من الأحلام. هكذا، حمل كل منهم ما توافر من آلات موسيقية في متناول ذات يده القصيرة الباع، محاولاً إثبات وجوده، والعبور من العادي إلى نجومية بسيطة عبر المتاح في حياة المخيم من فسحات. هكذا، التقطتهم عين مؤسس فرقة الاستقلال وأذنه، فدعاهم إلى الانضمام إلى الفرقة، وهكذا كان. منذ ذلك اليوم، بدأ نجمهم يلمع، إن في الأعراس المحلية أو المهرجانات والمسيرات والتحركات التي تقام دوماً لمناصرة القضية.
بداية الانتفاضة الثانية في عام الفين، كانت الشرارة الأولى. في ذلك الوقت، كانت الحماسة لما يحدث في فلسطين على أشدها. الأغنيات القديمة لم تعد كافية مضموناً ولا موسيقى، فقد اعتادها الناس هنا وملوا من تكرارها. هكذا، يروي عاصف موسى المؤسس ورئيس جمعية الغد التي تبنت «فرقة الاستقلال» كيف أطلق الجيل الأول من الفرقة التي «تزامن إنشاؤها مع وجود تحركات شعبية داعمة للمقاومة في فلسطين. من هنا كان لا بدّ من محاكاة الانتفاضة والحثّ عليها، فكانت أصوات الأطفال التي دربتهم الجمعية جاهزة لتأدية أغانٍ وطنية وثورية، وسرعان ما باتت هذه الأغاني على شفة كل لاجئ في المخيم».
وإن كانت الانتفاضة قد فرضت «أجندتها» لجهة مضمون الأغاني، إضافة إلى ما تيسّر مما «يطلبه الجمهور» الذي تدخل السياسة والقضية في يومياته بأدق تفاصيلها، فإن أغاني الحب يبدو أنها لا تزال، لصغر سنّ أعضاء الفرقة ربما، بعيدة عن تفكيرهم. وهم عندما يطلب إليهم غناء الغزل والغرام، لا يجدون مناصاً من ترداد أغانٍ معروفة لأم كلثوم وفيروز، إضافة إلى أغانيهم التراثية من جفرا وميجانا وروزانا. ورويداً رويداً، كسر الأولاد هيبة الجمهور، بعد «شوية تلبيكات بالأول» كما قالت سميرة عبد الرازق التي تكبرهم قليلاً، والتي دربتهم.

لا نملك تجهيزات صوتية، لكننا نستأجرها في كل حفلة
عن اكتشاف تلك المواهب، يشرح موسى قائلاً: «في النادي الرياضي في المخيم، كان يحتضن طفلين كانا يواصلان الغناء طوال النهار، حتى أثناء ممارسة الرياضة، من هنا ولدت فكرة إنشاء فرقة موسيقية للأطفال، سرعان ما اكتمل عددها بانضمام أطفال آخرين اكتشفت أصواتهم في أزقة المخيم وشوارعها. بيد أنه بعد مرور 5 سنوات على تأسيس الفريق الأول، كبر أعضاء الفرقة، ما أزال عنها ميزتها الأساسية، وما استدعى البحث عن أصوات أطفال جدد بالطريقة التي اعتمدت آنفاً، للحفاظ على التجربة الفريدة في المخيمات الفلسطينية، فتأسست الفرقة الرقم 2 للأطفال».
أكملت الفرقة 2 ما بدأه السلف، المشاركة في المهرجانات والمناسبات الوطنية، والأعراس التراثية، واستطاعت أخيراً أن تكسر الاحتكار الذكوري للفرقة، بانضمام نجمة جديدة إليها، وهي سميرة عبد الرازق التي استطاعت حسب قولها، «بعد محاولات حثيثة، أن أقنع والديّ بضرورة انضمامي إلى الفرقة التي كنت من أشد المعجبين بأدائها، بالإضافة إلى أنها تحقق رغبتي»، متابعة: «لن يثنيني المجتمع أو الحجاب عن الظهور على المسرح وتقديم صوتي للجمهور».
إضافة إلى دورها بالإنشاد، ترشد سميرة أعضاء الفرقة إلى كيفية التصرف بوصفهم فناني المستقبل، كتعليمهم كيفية الالتزام بالوقت، وهي من أكثر المشاكل التي كانت تواجه الفرقة. تقوم سميرة بدورها هذا بحكم تقدمها سناً عنهم وخضوعها لدورات بالإرشاد المهني.
«الغناء في دمنا»، يشرح الطفل بهاء شحادة (12 سنة)، مبرراً شغفه بفن الغناء من منطلق وطني صرف، وهو ما سيعوّل عليه مستقبله، الذي يحلم في أن يعيشه في بلده فلسطين المحتلة، التي لم يرها سوى من خلال شباك الأسلاك الشائكة التي تسيّج الحدود اللبنانية جنوباً، وشاشة التلفاز، وخصوصاً خلال نشرات الأخبار. من هنا يتذكر أغنية للفرقة، فيرددها بصوته العذب، على وقع عزفه على الغيتار، «منحبك ونريدك يا فلسطين/ بإذن الله يا أقصى إحنا راجعين...». لكن ماذا لو تبددت أحلام شحادة هنا؟ لا يجيب نثراً، بل بأغنية أخرى للفرقة، «ادفنوني هناك جنب البيّارة (بساتين الليمون)/ ببلدي فلسطين أحلى منارة/ ما بدي أموت ببلاد الغربة/ دخلك يا ربي رجعني البلدي...». يوافق قاسم حمد (13 سنة) شحادة الرأي، فغضبه وسخطه على مسلسل الدم المراق في بلده دفعاه إلى الانتفاضة بصوته، من هنا يستعيد أغنية معبّرة للفرقة، تتحدث في ما تتحدث، عمّا تعرضت له المخيمات في الأراضي المحتلة، «عابوابك يا مخيم شو بكينا/ قصص كتيرة بتحكي عاللي حصل فينا/ قتل ودمار وجرح/ ورعب وقصف وتهجير/ شعب صامد بالأرض عم بقرر مصير... صامد يا مخيم برغم الآلام». علماً بأن كلمات أغاني الفرقة من تأليف قائد الفرقة عاصف موسى وتلحين المتطوّع فادي زيدان.
ومن الأغاني الوطنية الثورية، تقوم جمعية الغد التي تبنت الفرقة، بتدريبهم على ألوان أخرى من الأغاني، ولا سيما تلك التي تعود للتراث الفلسطيني والتي يؤدونها في الأعراس من نوع الروازانا والجفرة والدلعونا وأبو الزلف، والأغاني الطربيّة التي يجيد إنشادها بسلاسة وسهولة نجم الفرقة الصاعد في سماء المخيمات، علاء شحادة (14 عاماً). كيف لا وأغاني أم كلثوم راسخة في دماغه عن ظهر قلب؟
وبالرغم من سطوع نجم الفرقة، ليس على الصعيد المحلي فحسب، بل العربي، بعدما دعيت إلى إحياء حفلتين في المغرب والأردن، بيد أنها تسير «من دون كاز». يقول أعضاء الفرقة: «لا نملك تجهيزات صوتية حتى الآن، إذ نستأجرها لدى كل مناسبة أو حفلة. أما تكاليف النقل والثياب وما إلى، فهي على عاتق الأصدقاء والجمعية المتكفلة بجميع المصاريف». وهنا تروي الفرقة حادثة حصلت معها في إحدى المناسبات في صيدا، إذ اضطر أعضاؤها إلى العودة إلى عين الحلوة سيراً على الأقدام، نظراً لاستنفاد تكاليف بدل النقل. استطاع هؤلاء الوصول إلى منازلهم آنذاك، بيد أن السؤال هو: هل يستطيع هؤلاء متابعة مشوارهم الفني؟ لا يبدو ملحّن الفرقة فادي زيدان متفائلاً بجوابه، برغم ما يعبّر عن ذهوله بما يخبئ هؤلاء من مواهب وأصوات جميلة. أما السبب، فلأن «نوتة» ظروفهم في كونهم لاجئين هي التي تعزف لهم حياتهم، وفق لحنها الخاص. من هنا يتمنى زيدان أن تتبنى أعمالهم شركة إنتاج فنية، حفاظاً منها على مواهبهم الخلاقة، ولتأكيد أن عين الحلوة تخفي في أزقتها مبدعين، لا مسلحين وإرهابيين كما يتهمونها».


يصبّ عاصف موسى جام غضبه على المؤسسات الرسمية الفلسطينية، وتحديداً الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين الذي أقصى الفرقة من أي دعم يذكر إذ «استُبعدت من المشاركة في الاحتفالات التي تقيمها في لبنان، ولا سيما احتفال القدس عاصمة ثقافية للعالم، رغم أنها الفرقة الفلسطينية الوحيدة التي تضم فنانين صغاراً». أما سبب الاستبعاد فهو لأنهم «مش من لونهم السياسي»، يقصد ليسوا فتحاويين