مذكرات القاسمية (1)
لأحدثكم عن مخيم القاسمية، المخيم الذي ترعرت فيه والدتي، والذي كنا نقصده في الثمانينيات والتسعينيات هرباً من طائفية «أولاد بلدنا»، عليّ العودة 14 عاماً إلى الوراء. في بيت ستي «أم ناصر» كانت الطفولة، المغامرات، الاستكشافات، وغالباً معنى أن تعيش في مخيم رغم صعوبة الحياة هناك.
خلف بيت ستي كان «البستان المحظور»، ملّاكه لبنانيون، لا يسمحون لأحد من المخيم بدخوله لقطف أثمار «الشهوة» من الليمون والرمان. ستي كانت تمنعنا من التسلل إليه، لكن بما أن كل «ممنوع مرغوب»، قررت مع أولاد خالي وخالتي اقتحام البستان الذي سيّجه المالك بأسلاك شائكة، يكاد يصلها بقوة كهربائية لو أن حقوق الملكية تسمح له بذلك. كنا ما يقارب 10 أطفال، ننزل التلة خلف بيت ستي ممسكين بعضنا بأيدي بعض كي لا يزحط أحدنا. كان الأمر أشبه بالحرب، تسلل إلى التل، نزول إلى الأرض، تخطي الأسلاك الشائكة، ومن ثم الحرية ببلوغ الأرض. لكن في كل معركة لا بد من الضحايا. سقطت أنا ضحيةً في أول المعركة عندما علقت قدمي بالشريط الشائك وكانت أُختي تشدني بيدي لأنزل بسرعة، فأصبت بجرح عميق ونزفت كثيراً، ربما رآنا صاحب البستان و«دعا علينا وقتها». حملني أولاد خالي إلى بيتهم قبل قطف أي من الفاكهة، وبعد صعوبة قصوى في تسلق التل دون أن تحس أو ترانا ستي عائدين من المعركة، ومن الخوف الشديد لم يجرؤ أحد على أن يأخذني إلى المستوصف أول المخيم، فكان الحل بـ«الدوا الأحمر»، وبالمناسبة كان الدواء الأحمر وحبة الأسبرين، العلاج الشافي لجميع الأمراض البسيطة والمستعصية حتى في المستوصف. لم يجدِ الدواء الأحمر نفعاً فظل أثر الإصابة. وبرغم ذلك كنا دائماً نكرر المحاولة، ليس طمعاً بالفاكهة، بل «جكارة» بالمالك البخيل. بعد أشهر قليلة تركنا المخيم متوجهين إلى بيتنا في «الضيعة» بعدما انتهينا من إعادة بنائه أوائل التسعينيات، أي بعد الطائف وفتور التوترات ضد الفلسطينيين في جنوب لبنان.
أنظر الى قدمي اليوم، لا تزال الإصابة واضحة، ربما كنت بحاجة إلى تقطيب الجرح.. أو بالأحرى، ربما كنت بحاجة إلى أن تبقى الإصابة واضحة، فلسفة؟! لا.. فكثيراً ما نقع ونجرح أقدامنا ونحن نتعلّم ركوب الدراجة أو القفز أو لعب اللقيطة، بمعنى أنها إصابات لا تذكر ولا نتذكرها، أما إصابة قدمي فأذكرها كأنها كانت البارحة، فهي تذكرني ببيت ستي، والمخيم أمي، وبيارة الليمون والرمان، وأنني ابنة ذلك المخيم وأن «التربية مخيمجية»!
إيمان بشير

بعدنا بخير... طمنونا عنكم


لست بحاجة إلى أن أرجع بذاكرتي، ولا حتى لحظة واحدة. لست بحاجة إلى أن أعود بذاكرتي إلى حيث كانت طفولتي، لأني هنا حتى الآن، وسأبقى. أنا هنا ليس لغياب «الطائفية» والحرب الأهلية، بل لأنه ليس لي إلا هنا لأكون.
أما بيت ستي فلم يعد موجوداً، ولا بيت عمي ولا خالي. ونحن هنا أيضاً ممنوعون من التسلل بسبب الأسلاك الشائكة. سارق ما أطلق على نفسه اسم دولة، سيج بساتيننا من الرمان والليمون والزيتون. لم أرَ يوماً بساتيننا في الجليل أو الضفة. لكن المثل الصالح هنا، ليس «كل ممنوع مرغوب»، بل «كل مجهول مرهوب».
يحق لمالك البستان في مخيم القاسمية أن يسيج بستانه بالأسلاك الشائكة والكهرباء، وحتى بخندق مشتعل، لأنه بكل بساطة صاحبه. ويحق له أن «يدعي عليكم». وأن يفرح لجرحك، ويشمت. فالليمون له، والرمان له. وقد يكون ورثه عن أبيه، عن جده. وقد يكون سقى الأرض بعرقه وأنفاسه. وقد يكون فلاحاً أجيراً لدى إقطاعي، تعب وشقي ليكون الرمان والليمون. ربما كان عليك مواجهة «ستك» وعصاها. ربما كان عليك تسلق تل، ومداواة الجرح بالدواء الأحمر. ربما كان هذا أسوأ ما عليك مواجهته. فجدتك لا ترتدي خوذة، وعصاها ليست كلاشنيكوف. والتل ليس كومة بيوت مدمرة، والدواء الأحمر دائماً موجود.
في «حربنا على إسرائيل» نحن أيضاً تسلقنا، وتسللنا، لكنا لم نعبر. وسقط منا الضحايا، 5 بين جريح وقتيل، كما يقال في الأخبار، أو بين جريح وشهيد كما أقول. لم نصل أرض الحرية، ولم نصل أرض الليمون. بل وصل بعضنا أرض المستشفى، والبعض الآخر مثواه الأخير. لم يداوني أولاد خالتي أو خالي بالدواء الأحمر، لأنهم في الأردن يشاهدونني وإخوتي على الأخبار. لم يبق أثر لجرح في ساقي أو يدي، ولا حتى في قلبي. لم يعد هناك متسع للجروح ولا للحزن. الوقت الآن للبحر، ملاذنا الأخير. ونحنا بخير... طمنونا عنكم.
غزة ــــ أبو زياد