«البقرة المقدسة»، التي كان يمثلها الجيش الإسرائيلي، ذُبحت منذ زمن طويل. فما يواجه الجيش من انتقادات جمهورٍ واسع في إسرائيل، بشأن التعاطف مع جندي قاتل (أعدم الشاب المصاب عبد الفتاح الشريف)، ليست سوى تجديد لعملية ذبح جيش كان فوق النقد، وإعادة إنتاج «بقرة لم تعد مقدسة».
في الإطار، لا يتوقع أن تنجح تحذيرات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي ايزنكوت، من مفاعيل اهتزاز ثقة الجمهور الإسرائيلي بجيش كان يفترض أن يكون «بوتقة صهر» لإنتاج أجيال صهيونية عابرة للانتماءات العرقية والطوائفية. بل من المرجح أن ايزنكوت يدرك أن الأوان قد فات، لتحقيق آمال كانت تراود المؤسسين ومن يليهم، برغم أنه شدد على أن ثقة الجمهور بالجيش تمثّل عنصراً حيوياً في مهمته بالحفاظ على «الدولة وضمان وجودها والانتصار في الحروب».
كذلك لم تفلح محاولته، كما ظهر في مقابلته الأخيرة مع إذاعة الجيش، في التغطية على حقيقة تحوّل تعليمات إطلاق النار إلى نقاش سياسي وجماهيري عاصف. فقد انفجرت هذه القضية بعدما أقدم جندي على إعدام الشريف، الأمر الذي أحرج المؤسسة العسكرية ومعها السياسية، فبادرت إلى إتخاذ إجراءات مخفَّفة بحق الجندي، لم تعجب جمهوراً كبيراً في إسرائيل، تطرف جداً في التعبير عن انتقاداته للجيش ولقادته.
رسائل آيزنكوت، التي وجهها إلى الجمهور، كشفت عن حجم الضغوط التي يتعرض لها الجيش، وإدراكه خطورة مفاعيل الأجواء التي تسود في إسرائيل على علاقة الجنود بضباطهم، والعكس، فضلا عن أن الجيش بات يشعر أنه سيكون تحت رقابة قطاع واسع من الجمهور كي يحكم عليه وفق معايير أيديولوجية وغرائزية، مع الإشارة إلى أنه في الماضي كانت أمثال هذه القضية تتركها المؤسسة السياسية، إلى حد كبير، للجيش، باعتبارها قضية مهنية، يتخذ فيها قراراته وفق ما يرى أنه يسمح له بتنفيذ المهمات المطلوبة منه.
لكن، نتيجة إدراك ايزنكوت لحساسية الموقف، وكتعبير عن القلق مما قد يترتب على هذه المسارات، توجه إلى الجمهور طالباً منه المحافظة على ثقته بالجيش. وتأتي هذه المطالبة بعد تطور منسوب النقد للجيش، الذي كان يتعرض لانتقادات ما، لكن لم يسبق أن بلغت درجة تنظيم تظاهرة لمصلحة جندي خالف التعليمات ويحاكمه الجهاز القضائي العسكري.
مع ذلك، باتت القيادة السياسية والعسكرية في تل أبيب، أكثر حرصاً على صياغة مواقفها بما لا يستفز الجمهور، الذي لم تشبع جرائم جيشه غرائز الانتقام لديه. ومع أن الجيش لم يقصر في جرائمه التي يرتكبها، آخرها حربه في قطاع غزة، لم تترك قيادته السياسية وسيلة لتظهير هذه الجرائم، بما فيها منصة الأمم المتحدة، كأنها عمليات عسكرية «مشروعة» تقع فيها المسؤولية على الضحية. لكن المشكلة باتت الآن أن الجمهور في إسرائيل بات لا يطيق حتى هامش المناورة لحسابات سياسية ودعائية. وهو ما فرض على آيزنكوت القول، إن «الجيش ليس مؤسسة ديموقراطية، ولكنه جيش في دولة ديموقراطية، ولديه قواعد ومبادئ ومعايير... حتى لو لم تكن شعبية».
الانعطافة في تحطيم أسطورة الجيش في نظر الجمهور الإسرائيلي، بدأت مع بدء تغلغل انطباع في الوجدان العام بأنه لم يعد قادرا على توفير الأمن بالمستوى الذي كان يطمح إلىه الجمهور وتربى عليه منذ ما بعد إعلان «دولة إسرائيل» عام 1948. بل بات حتى ما يفترض أنه إنجازات للجيش، موضع إشكال وسجال ووجهات نظر متعددة.
بدأت هذه الأسطورة بالتهشم منذ ما بعد الاحتلال في لبنان، وتحديدا على ضوء انتصار حزب الله خلال مواجهة عدواني تموز 1993 ونيسان 1996، وصولا إلى التحرير العام 2000، وتتويجا بنتائج حرب 2006، التي أعلنت «لجنة فينونغراد» رسميا إخفاق الجيش فيها... وما أعقبها من معادلات ردع متبادل، أدت إلى ارتفاع مستوى الانتقادات للجيش، كونه لم يعد يوفر «البضاعة» التي يأملها الجمهور.
انتقلت عملية التهشيم إلى داخل فلسطين في مواجهة الانتفاضة والمقاومة، ووصل الأمر في المرحلة التي تلت الحرب الأخيرة على غزة، إلى تعرّض الجيش للانتقادات، فلم يقبل منه الجمهور ما عرضه كإنجازات مفترضة، وصولا إلى العجز في مواجهة الانتفاضة المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر. كل ذلك ساهم في رفع منسوب النقد الذي بلغ جرأة غير معهودة، وهيأ الأرضية لظهور مفاعيل عوامل داخلية ساهمت في بلورة واقع جديد للجيش وللجمهور، على حد سواء.
أحد أهم معالم هذا الواقع المستجد، ويدركه أيزنكوت وسائر المنظومة القيادية، أنه داخل الجيش يتبلور جيش آخر، لديه معاييره الخاصة؛ ويعود ذلك إلى التحول في عمليات التجنيد من تجنيد يفترض أن يكون عاماً، إلى تجنيد انتقائي، مع الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من جمهور الىمين تتطوع في الوحدات القتالىة التابعة للجيش.
أحد أبرز تجليات هذا التشكل، أداء الجيش في الضفة المحتلة، حيث يبلور قراراته وفق إيقاع المستوطنين، مدفوعاً بتوجيهات حاخامات الضفة، بالإضافة إلى حقيقة أن المستوطنين يشاركون في ألوية وكتائب الجيش هناك، ضمن فرقهم المحلية، إلى جانب مشاركتهم الرسمية فيه. وعلى ضوء ذلك، نشأ توتر بين «هيئة الأركان العامة» التي لديها منطق مختلف وأوامر ومحفزات مختلفة، والجيش الذي يعمل في الضفة، وهدفه الأول هو الدفاع عن المستوطنين.
نتيجة هذه الدينامية المتصاعدة، تتبلور حصانة لجنود وتشكيلات في «بقرة لم تعد مقدسة»، توضع السكين على رقبتها مع كل محطة ومنعطف، تهديداً بذبحها مرة أخرى.