يعيش أهالي مخيم نهر البارد اللاجئون إلى مخيّم البداوي، صدمة قرار مجلس شورى الدولة القاضي بإيقاف إعمار البارد حفاظاً على المدينة الأثرية المكتشفة تحته
البداوي ــ عبد الكافي الصمد
لم تكد عجلة إعادة إعمار مخيّم نهر البارد تبدأ، حتّى جاء قرار مجلس شورى الدولة بإيقاف قرار الحكومة بطمر الآثار المكتشفة والبناء عليها لمدّة شهرين.. إن لم يكن أكثر (الأخبار الرقم 896). قرار تعليق أعمال البناء في المخيّم نزل كالصاعقة على أهالٍ كانوا قد انتهوا إلى تصديق ما كُرّر لهم من حتمية إعادة إعمار مخيمهم المدمّر. هكذا استرجعوا بمرارة «الحكمة» الفلسطينية التي راكموها من تل الزعتر إلى النبطية إلى جسر الباشا: «اللي تدمّر ما بيرجع يتعمّر».
أحنّ إلى بيتي في البارد كما أحن إلى فلسطين
بعدما علم فلسطينيو البارد بالقرار، علت الصرخة. التعليق نفسه على كل شفة. كأنّهم حفظوا الجملة نفسها، ما إن تسألهم عن رأيهم في القرار حتى يجيبوا «عندما لا يُسمح للفلسطيني بممارسة 72 مهنة في لبنان، ويفرضون عليه قيوداً لا حصر لها، ماذا سيفعلون به أكثر من ذلك؟ لم يبقَ إلّا أن يرموه في البحر؟».
مجموعة شباب في مخيم البداوي يتبادلون أطراف الحديث عند مدخل أحد الأزقة الضيقة. نسأل إذا كانوا يعرفون أحداً من سكان البارد يقيم هنا، فتأتي الإجابة سريعة: «كلنا من البارد، تفضّل شو بتريد؟». نسألهم عن موقفهم من القرار الأخير: وهل ما زال الأمل بالعودة إلى بيوتهم قائماً أم أنه تضاءل؟
الاستنتاج الأول من أجوبة الشباب، هو أن خبر القرار لم ينتشر كفاية، إذ لم يسمع به كثير من النازحين الموجودين هنا بأعداد كبيرة. ومع ذلك، كان الموقف واحداً بين العارفين بالقرار وغير العارفين، إذ رأوا أن «صدوره يشير إلى أن الأمل بإعادة الإعمار أصبح ضعيفاً»، كما قال لنا أحد أفراد المجموعة. رفض ابن المخيّم ذكر اسمه، وهكذا فعل الباقون أيضاً. ولدى سؤالهم عن السبب الذي يدفعهم إلى هذا الرفض، ينبري أحدهم قائلاً: «بصراحة، نحن ندخل المخيم يومياً، وإذا ذكرنا أسماءنا فلن يعطونا بعد ذلك تصاريح تسمح لنا بالدخول، بنكون بإشي بنصير بإشي تاني». عندما يطمئن هؤلاء إلى أن أسماءهم ستبقى طي الكتمان، يستفيضون في التعليق على القرار. يشرح كبيرهم كيف أنهم بهذا القرار «يخربون بيوتنا التي بنيناها بصعوبة». ويستغرب كيف ظهرت هذه الآثار فجأةً «فعندما بنينا بيوتنا، لم تظهر أمامنا أية آثار رغم أننا كنا نحفر في الأرض بين مترين و4 أمتار أحياناً»!!. يستفيض الرجل بالشرح أكثر، فيقول «كنا نحفر تحت البيت للجورة الصحية، لأنه لم يكن ثمّة شبكة لمياه الصرف الصحي وكنا نمنع من تصريف المياه في الشوارع والأزقة». ويسأل «نحن لسنا ضد الحفاظ على الآثار ولكن ماذا سيفعلون بنا الآن؟ هل رمي أكثر من 35 ألف شخص في الشارع دون مأوى يقبله شرع أو منطق أو قانون؟ وهل الحفاظ على الحجر أهم من تأمين الحد الأدنى من كرامة البشر؟».
يعيد هذا القرار الشباب إلى قصصهم التي تكوّنت في مخيمات الشتات بعد دمار البارد، فيقول أصغرهم بأسى «كنت أقيم في منزل كبير في المخيم القديم، اليوم أسكن مع زوجتي وأولادي الأربعة في مخزن». يسكت، إفساحاً في المجال لرفيقه الجالس إلى جنبه، فيتساءل هذا الأخير «لماذا هذه القرارات؟ لماذا لا نعطى حقوقنا المدنية والاجتماعية في لبنان مثلما نحصل عليها في باقي الدول العربية؟ ولماذا نسهم في نهضة هذه الدول بينما نُمنع في لبنان من الحصول على الحد الأدنى من العيش الكريم». لا أحد يجد جواباً عن سؤاله، فيكملون سرد قصصهم المؤلمة، فيقول أحدهم مختتماً الجلسة «أحنّ إلى بيتي في البارد كما أحنّ إلى فلسطين، ولكن يبدو أن عودتنا إلى المكانين أصبح مصيرها واحداً.. لن نعود».