مذكرات القاسمية [2]
كان مخيم القاسمية محاطاً بالبساتين التي تتبنّى أرواح شهداء حرب المخيمات، مثلما يروي بعض الناس في المخيم. فمعظم جثث الشهداء مدفونة في بستان «هايل» بجوار بيت ستي، الأمر الذي كان يولّد بعض الخرافات أن الأرواح تعود في المساء، لا لتنتقم بل لتروي حكاية موتها ظلماً. وبما أني كنت في السابعة من عمري، فقد آمنت فعلاً بتلك الخرافات. أما ستّي «أُم ناصر» فكان عندها من الخرافات ما هو أغرب وأقرب إلى الطرافة التي لا تُصدق، مع أننا بالفعل كُنا نصدقها. «أبو الدينين» لم يكن إنساناً صالحاً، فابتلاه الله بأذنين كبيرتين بحجم جسده. وهرباً من «البلوة»، سكن بستان «هايل» كي لا يراه أهل المخيم. «أبو الدينين» لا يظهر إلا في الليل، ولا يأكل إلا الأولاد الصغار المتسللين إلى البستان لقطف الليمون. أما الأسوأ، فهو أنه كان ينام على «دان» (أذن) ويتغطّى بـ«الدان» الثانية تحت الأشجار ليفترس الأولاد المشاغبين، ثم يحلّق بهم مستخدماً أذنيه العملاقتين إلى مكانٍ مجهول. أما «أبو رجل مسلوخة» فحكاية أخرى. هو رجل شرير برجل طبيعية وأخرى انفصل الجلد عنها. لم تكن له قوى خارقة، إلا أنه كان أكثر إرعاباً لي، وخاصة أن بنات خالي كنّ يتوهمن أنهن رأينه مرات عدة، يحمل الكيس الذي يضع الأولاد المشاغبين فيه. في ليالٍ كثيرة حرمتني قصص ستّي من النوم أو دخول الحمام، حتى أصبحت أفضّل النوم عند خالتي سعاد لأن بيتها بعيد عن بستان «هايل». وكنت أكيدة أن خالي «زيدان» سيحميني إذا جاء «أبو الدينين» أو «أبو رجل مسلوخة»، فكان بيت خالي في مقابل بيت خالتي، وحدّاً فاصلاً بيني وبين بستان «هايل» والأرواح الشريرة. وعلى الرغم من ذلك، كنت أتوهم أنهما يتبعانني وأنني أراهما يختبئان في البستان، فعزمت أن أصبح «شاطرة» كي لا يأخذني أحدهما ويضعني في الكيس إلى يوم غادرنا فيه المخيم. عدت بعد غياب سنوات لانشغالي بدراستي الجامعية في بيروت، لأرى أن البستان قد مُسح بالكامل، حتى أشجار السرو التي كانت تخبّئ الأرواح قد اختفت، لا أدري ما السبب. أردت أن أسأل ستي «معقولة أبو الدينين وأبو رجل مسلوخة هجرا البستان زي العصافير؟»، فخجلت من السؤال، «فأنا صرت صبية هلّق» ومن المفروض أنني لا أؤمن بالخرافات. خرافة واحدة لا تزال ستّي ترددها حتى اليوم، وما زلت أنا أؤمن بها أيضاً، أتذكرون «البستان المحظور»؟ حُفرت في تلته مغارة صغيرة، كانت ستّي تخبّئ أبناءها فيها أيام الحرب. ستّي لا تزال حتى اليوم تسمع صراخ أناس من المغارة وتسمع مناجاة أناس كانوا قد ماتوا... خرافة؟ ربما... لكنني أؤمن بأن الأرواح لا تموت.
إيمان بشير

■ ■ ■

خرافة حقيقة...

كان بودّي أن أبادلك قصصاً كانت تحكيها لي جدتي. وجدتي كانت تحكي لي قصصاً كثيرة، لكني لا أذكر أنّ أياً منها كانت تخيفني لدرجة أن تجعلني أنام باكراً. فأنا منذ أن كنت صغيرة تعوّدت ألا أنام باكراً. منذ كان عمري ثماني سنوات، منذ أن كنا نزور القرى المهجّرة المجاورة لبلدتي الصامدة أبداً ضمن جولات المدرسة «في أحضان الطبيعة»، منذ ذلك الوقت لم أعد أنام. هناك رووا لنا أننا في قرية مهجّرة، ولم نعرف ماذا تعني هذه الكلمة، فشرحوا لنا أنه خلال سنة 1948 (أي وقت طويل قبل ولادتنا ـــــ كانت الذكرى الـ50 للنكبة يومها) حدثت حرب وهجّر أهالي هذه القرى التي أصبحت لاحقاً «محميات طبيعية» و«أحراشاً» تابعة «لدائرة أراضي إسرائيل». عندما عدت .. في أول فرصة، ذهبت لأسأل جدتي، ماذا حدث خلال الحرب؟ ولماذا ترك الناس بلادهم وإلى أين رحلوا؟ والأهم، لماذا بقينا نحن؟
كانت الإجابات مقتضبة، ولم تعطني جدتي ما أردت سماعه، وعرفت أنها تخفي عني أموراً كثيرة، فصرت «أبحبش» واسأل، حتى اجتمعت في رأسي الصغير تلك الحكاية الكبيرة وتفاصيلها، وأصبحت هذه الأحداث هي أحلامي التي رافقتني خلال سنواتي الأولى، منذ الطفولة حتى سنوات المراهقة المبكرة. كانت دائماً تأتيني تلك الهواجس بأن جندياً ما سيقتحم البيت ويقتل أهلي وسأبقى وحيدة، وأن ما حدث خلال النكبة سيتكرر مرة أخرى. كل شيء في مخيّلتي الصغيرة تحوّل إلى رعب من الليل، وخوف لا ينتهي من جنود وأناس لا أعرفهم!
عندما كبرت لاحقاً، وتعلّمت أكثر وأكثر، اختفى هذا الرعب ليحل مكانه غضب وحقد لانهائي. وصار لي معهم ثأر شخصي، كل مرة أتذكر فيها طفولتي وأفكر أن طفلاً ما يحمل خوفاً مثل الذي كنت أحمله في طفولتي يثور حقدي! إحدى عشرة سنة مرّت منذ أن كان عمري ثماني سنوات، وما زلت أذكر خوفي. وما زلت أزور القرى المهجّرة كلما سنحت لي الفرصة. ربما لأتذكر ما لن أنساه، وربما لأتذكر لماذا أحمل كل هذا الحقد في داخلي؟ لكني في كل مرة أدرك كم كانت جدتي تحاول حمايتي عندما منعت نفسها عن رواية قصتها المخيفة أمامي.
الجليل ـ أنهار حجازي