زيارة الرئيس حسني مبارك إلى واشنطن ليست عادية. يتطرف البعض ويسبغ عليها وصف التاريخية. يبدو فيها الوفد المرافق لمبارك في رحلة تحدد مصير ملفات كثيرة في مصر والشرق الأوسط
وائل عبد الفتاح

الرئيس المصري و«الطبّاخون» الجدد



لم تسأل واشنطن هذه المرة عن صحة الرئيس حسني مبارك. المهمة صعبة لأنها تتعلق بالمستقبل. مبارك يصحب معه أركان نظامه في زيارة «تحول دراماتيكي»، كما قال تقرير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تحت عنوان «مبارك في واشنطن». صحة الرئيس لا تشغل بال الإدارة الشابة لباراك أوباما، لأن المهم في هذه الزيارة ليس ماذا سيفعل مبارك. ولكن ماذا سيحدث بعد مبارك؟ وهذا سؤال لا يستطيع مبارك الإجابة عنه منفرداً. وهذا ما يفسر ضخامة الوفد المصاحب له (يقال إنه يضم ١٥٠ بين مسؤولين سياسيين وعسكريين وصحافيين ومفكرين ورجال أعمال).
يصحب مبارك معه أركان النظام الحالي، رئيس الاستخبارات عمر سليمان، وجمال مبارك، مدير عملية إعادة البناء في الحزب الحاكم والحالم بالرئاسة، إلى جانب مسؤولين عن المواقع المفصلية في الحكومة ورجال أعمال يطمحون إلى الانتقال من دور «الحلفاء» إلى «الشركاء» مع نظام صمم من أجل البيروقراطية العسكرية (المتخفّية أحياناً في ثياب مدنية).
مبارك هو استمرار للتحول الاستراتيجي الذي قام به سلفه أنور السادات في ١٩٧٤ باتجاه واشنطن بعد سنوات الدوران في فلك المعسكر الشرقي (السوفياتي). زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون 1974 هي النقطة الفاصلة التي حولت أميركا من عدو إلى صديق وحليف.
وقتها لم يكن الاندفاع نحو أميركا مجرد رغبات رئاسية «من السادات ثم مبارك» فقط، لكنه أيضاً أحلام شعبية بالتخلص من فقر الحروب، وسياسية بالتخلص من زمن الحزب الواحد والنموذج السوفياتي في الحكم.
التحول من عداء أميركا «أيام عبد الناصر» إلى الدوران في أفلاكها «أيام السادات ومبارك»، كانت تحكمه عواطف أكبر من المصالح، وشعور قوي بأن علاقة الغرام «المتوترة بين مصر وأميركا» هي تذكرة العبور إلى الحياة السعيدة وإلى عالم بلا فقر مليء ببحيرات الكوكاكولا وأشجار هامبرغر وفاتنات من هوليوود تخرج من صناديق التفاح الأميركي.
عداء أميركا كان مشروعاً سياسياً ونظرة «ربما يعتبرها البعض ضيقة الآن» لمصالح مصر، باعتبارها قائدة المنطقة ومحررة فلسطين وشريكة في محاولات البحث عن طريق ثالث بعيداً عن القوتين العظميين وقتها «أميركا والاتحاد السوفياتي».
لكن الغرام الاضطراري لأميركا لم يكن مشروعاً سياسياً، كان اختيار «حكمة» تعترف بالأمر الواقع، ويتخلى عن كل مقاومة المشروع الأميركي، ويتراجع عن محاولات خلق الندية مع القوى العظمى.
الهروب إلى أميركا كان إعلاناً عن انسحاب روح كبيرة تحلم بعلاقات دولية أكثر عدلاً وتوازناً في القوى لا تضع الدول الصغيرة في دائرة الأتباع الدائمين. ولهذا ارتبط هذا الهروب بمهام مثيرة للشك (مثل استضافة شاه إيران المعزول في ثورة شعبية قادها الملالي، وأداء دور عراب الصلح مع إسرائيل، ثم المشاركة في حرب تحرير الكويت من الجيش العراقي). لكنها في الوقت نفسه حققت بعض المكاسب وارتبطت بإنجازات (أهمها استعادة أرض سيناء المحتلة برعاية أميركية وحدوث فورة رخاء بسبب المعونة والتحفيز على بعض مظاهر الديموقراطية وتحسين شروط التعددية السياسية).
لم تحدث أزمات كبرى في العلاقات المصرية ـــــ الأميركية إلا مرتين، الأولى مع رونالد ريغان (١٩٨٥)، حين اختطفت الاستخبارات الأميركية طائرة مصرية كانت تضم رهائن احتجزتهم مجموعة فلسطينية من ركاب السفينة «اكيلي لاورو» التي عرفت الواقعة باسمها. والأزمة الثانية خلال الولاية الثانية لجورج دبليو بوش.
وكلا الأزمتين ارتبطتا بالعجرفة في التعامل مع مصر (الحساسة لموقعها وصورتها في إقليم الشرق الأوسط). وربما كان مبارك أكثر هدوءاً من عبد الناصر والسادات، إلا أنه استخدم أسلوب الامتصاص السلبي في الملفات الصعبة.
امتصاص يصل أحياناً إلى درجة التجميد والارتباك، لكنه يمرر الزمن مع رهان على معرفة الخطوط الحمراء.
مبارك اليوم في أميركا بعد اجتيازه جسر المصاعب والآلام مع بوش. وقبل الدخول في دوائر الانتخابات التي تقول التقارير الأميركية إنها محط اهتمام تحت عنوان كبير «ماذا بعد مبارك؟».
لا تبحث إدارة أوباما عن بديل لمبارك بنفسها، كما فعل بوش حين دعم أيمن نور وتفاوض مع الإخوان المسلمين. أوباما يبحث عن ضمانات باستمرار فعالية دور مصر كحليفة أساسية. اتجاه البحث مختلف، وعلاقة الإدارة الأميركية الشابة بالتغيير في النظام العجوز اختلفت وتحولت إلى النصح والاقتراح، وربما منح تمارين للمجموعة المختارة في كيفية إدارة الصراع الآتي في مصر. في المقابل، تسعى إدارة أوباما إلى تقوية الاعتماد على مصر في «إنهاء» الملفات المفتوحة (التسوية في فلسطين والتطبيع مع إسرائيل وملء الفراغ في العراق).
مبارك يعرف ما يريده إلى حد كبير في الملف الفلسطيني. يعرف أن مهمته هي رسم خطوط لا يمكن التراجع بعدها. وكما قال في حواره مع «الأهرام» أمس قبل لقاء أوباما اليوم: «يجب أن توقف إسرائيل الاستيطان قبل أن تفكر بعض الدول العربية في اتخاذ خطوات لتطبيع العلاقات معها».
مقولة ليست جديدة وتطلب تزامن وقف الاستيطان والتطبيع، وهي حكمة المراقب المعتدل الذي يريد الحفاظ على عدم تورطه الكامل في تفاصيل القضية، وفي الوقت نفسه لا يخرج أصابعه كلها من الطبخة.
الحكيم العجوز يبحث عن كفاءة مفقودة.. وأمان يعبر به الأيام الأخيرة في راحة بال ومن دون قلق كبير يذكره بمصير تشاوشيسكو. الكابوس الذي طارده قبل فترة حين تصاعدت اضطرابات المحلة الشهيرة وحطم المحتجون صورته وداسوها بالأقدام.
يبحث مبارك عن نقلة في مستوى العلاقة تصبح مصر فيها حليفاً أكثر استقراراً. وتتحول المعونة إلى «شراكة اقتصادية»، وهي تصورات مطبخ سياسي جديد في مصر أغلب طباخيه من التكنوقراط، وتربيتهم بعيدة عن الاستقطاب بين عداء أميركا وكراهيتها ويتعاملون ببراغماتية مختلفة عن رجال مبارك القدامى، الذين لا يحبون أميركا ولا يقدرون على البعد عنها. ماذا سيفعل المطبخ الجديد في صحبة الرئيس العجوز؟
هذا سؤال الرحلة.

جمال و«ساحر التغيير»



يعمل جمال مبارك اليوم، بعد بحثه عن شعبية داخل الشارع المصري، للحصول على المباركة الأميركية لتسلّم الحكم. فالشعبية على أهمية حجمها يمكن أن توفّر ــ بعد الموافقة الأجنبية ــ فوراً في ديموقراطيات الـ 99 في المئة

جمال مبارك تربية حضانة سياسية. نصحه مركز استشارات سياسية في بداية مشروعه بالبحث عن شعبية. المدرب السياسي قال له وقتها: «لا تلتفت إلى هذا الكلام. إنهم بلهاء». الآن يعود جمال مبارك إلى واشنطن متصوّراً أنه مهّد الأرض وحفر القنوات إلى الناس وأصبحت له شعبية تحميه من هبّات الفوضى المتوقعة إذا نجح مشروعه في الوصول إلى مقعد الرئاسة خلفاً لأبيه.
حركة جمال مبارك حرة أكثر مع إدارة باراك أوباما. رغم أن بوش الابن كان يمنحه سنداً غير مباشر على أن خلافة الأب في الرئاسة لا تعني «التوريث». جمال مبارك يستمد من أوباما سنداً من جهة الاقتراب في العمر، وهذا ما جعله يعيش في صورة أوباما الساحر الذي يتحدث عن التغيير في دولة تصنع «النموذج» الأساسي للعالم كله وتعتمد على سطوة الاستقرار.
تغيّرت النبرة في خطاب جمال مبارك ومن معه، ودخلت تعبيرات تدور كلها حول فكرة أن «المجتمع ضد التغيير»، وأن المهمة ليست تغيير النظام، ولكن تغيير المجتمع. هي محاولة غير متقنة لرسم صورة جديدة يكون فيها جمال مبارك هو ساحر التغيير، وهي صورة من صنع حملة دعاية تستفيد من شعبية أوباما بين شرائح مختلفة من المجتمع المصري.
الحملة نفذها خبراء التقليد والنقل المباشر للفكرة. اقتنص الشطّار مزاج حملة أوباما ونقلوه إلى حملة جمال مبارك، متناسين الفرق الأساسي، وهو علانية هدف أوباما وسرية هدف جمال.
هكذا في ظل غياب المنافسة واختفاء صنّاع السياسة الكبار، يفرض جمال مبارك نفسه بالقانون الذي وصل به نجوم الكوميديا إلى قمة السوق، بعد صدفة فيلم «إسماعيلية رايح جاي».
ركب نجوم الكوميديا السوق وأصبحوا هم رمز تغيير السينما في مواجهة احتكار عادل إمام ونادية الجندي. ورغم أنه لا فرق كبيراً بين القديم والجديد، إلا أن لعبة الترويج قامت على أساس أن النجوم الجدد هم فرسان التغيير.
وهذا قريب مما فعله جمال مبارك حين قال، في حواره الأخير على الإنترنت مع الباحثين في الجامعات، إنه «في حرب مع مقاومة المجتمع للتغيير». اللقاء كان مصنوعاً على طريقة برامج التوك شو الركيكة.
وقف جمال مبارك في منتصف دائرة، مثل مذيعي برامج المسابقات. النص المكتوب أو المحفوظ من جمال مبارك لم يكن جذاباً. ظهرت تأثيرات ما لتدريبات قام بها خبراء إعلانات ومدربون سياسيون، لكنها من دون طعم ولا رائحة.
لم تكتشف التدريبات الطويلة والمنهكة للفرقة المصاحبة لجمال مبارك مواهب مدفونة أو قدرات لم تفصح عنها سنوات طفولته أو شبابه. لا يزال جمال مبارك محتقناً، وفي مهمة إجبارية. لا يحمل أفكاراً جديدة، ولا يبشّر بسياسة جديدة. بضاعة جمال مبارك قديمة ومستهلكة تفتقد الابتكار. وهذا ما يجعل دور المدرب السياسي ومصمّم الدعاية غير بعيد عن دور مطرب كباريهات أطلق، في تزامن مع اللقاء، أول أغنية تطالب المصريين بانتخاب جمال مبارك. ولأن الحملة لا تزال غامضة وسرية، فإن الأغنية راجت في الإنترنت بطريقة غير متقنة، وتتضمن تقطيعات صور بين المغني وجمال.
مطرب كباريهات يقود حملة الدعاية الغنائية. اسم المطرب مجهول بالنسبة إلى عشاق الطرب الشعبي، والأغنية تتشابك من الكلمة الأولى مع حرب التوريث. المغني اختار نغمة تستخدم في الأفراح والكباريهات للتهليل والترويج لصاحب فرح أو لمن يدفع النقطة: «حيّوا معايا المعلّم» أو «ألف تحية من الحاج...».
على هذه النغمة تداعت الكلمات المؤيّدة لترشيح جمال مبارك ليمسك «مكان أبيه». الأغنية تبدو كأنها إعلان للاختيار الحر المعتمد على الفطرة، في مقابل «تهييس» و«أونطة» من يصف خلافة جمال مبارك لأبيه بأنها « توريث».
يتساءل المغني: «طيب ليه ما يحكمش؟ طيب ليه ميمسكش؟». هذا سؤال نقل الجدل بشأن جمال مبارك إلى مساحة التفكير الشعبي، الذي يحلو للمثقفين وصفه بالبساطة.
السؤال يعني مباشرة أن الفطرة الشعبية تستغرب الاعتراض على أن يحكم جمال ويمسك «بعد أبيه»؟
مفهوم الحكم في هذه الفطرة، كما تقول الأغنية، هو أنه يحتاج إلى خبرة عائلية: «ريّس وابن ريّس»، «باشا وابن باشا»، و«لا يحتاج لسلطة ولا يحتاج لفلوس». هذه الفطرة الشعبية ترى أن الحكم يعني شيئين: السلطة والمال. وما دام جمال «شبعان»، فما المانع من أن يكمل مسيرة أبيه؟
«الموضوع مدروس»، يعني أن خطة وصول جمال وتولّيه مسؤولية تحقيق الأمان «لأولاد المغني». الأمان نفسه الذي عاشه المغني الأب في عهد الرئيس الأب.
يريد المغني أن يرث جمال مبارك أولاده من أبيه. ويراه الأحق لأنه لا بديل له «طلّعلي حد غيره بس يكون مضمون». ولهذا، فإن الصعايدة والفلاحين والمصريين كلهم بيحبّوا جمال. ٨٠ مليون مصري ها ينتخبوه وايييه....
أميركا لم تسمع الأغنية طبعاً، لكنّ تقاريرها الدبلوماسية كتبت عنها، وقد تعدّها إشارة إلى «شعبية» ما لجمال مبارك، الذي ترى دوائر أميركية أنه لا مانع من وصوله إذا حقق الاستقرار والديموقراطية، وأنهى قمع الدولة البوليسية، ووصل بالانتخابات البعيدة عن التزوير، وبنسبة ٩٩ في المئة.
وهذا صيد ثمين يتمنّى أن يعود به جمال مبارك من رحلة المصير.