strong>نتّكئ عليها الآن لكن مقوّمات النموّ المستدام مختلفةلبنان يتغلّب على نفسه سياحياً. ربّما هذا هو التعبير الأفضل لوصف موسم الاصطياف الذي اجتاحنا على حين غرّة، فيما تداعيات الأزمة الماليّة تنهش بمدّخرات الكثيرين حول العالم. عملة صعبة وتشغيل للمؤسّسات وإنعاش للعمالة، هذا ما يستطيع فعله أكثر من 1.5 مليون سائح، لكن النموّ المتين يحتاج إلى وصفات أخرى

حسن شقراني
«تخيّل مليون سائح يشرب كلّ واحد منهم كوباً من عصير الليمون يومياً. هذا يعني عشرة ملايين كوب خلال عشرة أيّام». نعم، إنّها السياحة المجنونة في لبنان حالياً، إيقاعها حيوي وانعكاساتها إيجابيّة على قطاعَي الزراعة والصناعة، وفقاً لنقيب أصحاب الفنادق في لبنان بيار أشقر. وبحسب معظم المعايير، يشهد قطاع السياحة والخدمات المبجّل تقليدياً في لبنان فورة غير اعتيادية ومخالفة للنسق المسجّل عالمياً عموماً. وحتّى نهاية تمّوز الماضي تجاوز عدد السيّاح حاجز المليون زائر، فيما وصل العدد خلال العام السابق برمتّه إلى 1.33 مليون زائر بحسب الأرقام التي نشرتها وزارة السياحة.
وهذا النموّ المحمود على مستوى القطاعين العام والخاص كان مرتقباً منذ بداية العام، على الرغم من أنّ الأزمة الماليّة كانت لا تزال حينها تفتك باقتصادات العالم وأسواقه الماليّة وكان المواطنون في العالم يخسرون مدّخراتهم واستثماراتهم تتبخّر. فقد سجّلت السياحة في الشهرين الأوّلين من العام الجاري نموّاً نسبته 51% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2008 وبنسبة 73.6% بالمقارنة مع شهري كانون الثاني وشباط من عام 2007.
بعض التوقّعات حالياً تفيد بأنّ عدد السيّاح الإجمالي سيتخطّى 1.5 مليون نسمة خلال هذا الموسم، ما سيساعد على إنعاش اقتصاد لبنان الذي تتربّص به الفوائد على الدين العام والمستحقّات المختلفة. وهنا يُطرح سؤال أساسي عن دور الفورة المسجّلة في هذا القطاع في تحفيز النموّ العام.
بيار الأشقر يشدّد في حديثه لـ«الأخبار» على أنّ «حياة السياحة هي الاستقرار» السياسي والأمني، وما دام قد توافر ذلك يمكن توقّع الكثير من قطاع السياحة. «ففي لحظة معيّنة انتُخب رئيس الجمهوريّة (ميشال سليمان في أيّار من عام 2008) وهذا الحدث مثّل ضمانة للاستقرار (لأنّ الرئيس انفتح) على الجميع». لهذا السبب نشهد نمواً كبيراً في النشاط السياحي خلال الموسم الحالي، على أساس مقارنة مع اضطرابات سياسيّة وأمنيّة عنيفة شهدتها البلاد منذ عام 2005.
والسياحة في لبنان، بحسب الأشقر، «قاطرة أساسيّة للاقتصاد» فالسيّاح الذين يتوافدون إلى لبنان هم أشخاص يبحثون عن «نوعيّة حياة وخدمات» وهؤلاء سيستمرّون بالتوافد، ما يجعل إنفاقهم واستثماراتهم رافعة أساسيّة تمسّ القطاع الزراعي «لدرجة أنّ مسألة كيفيّة تصدير إنتاجنا إلى الخارج لن تعود تمثّل مشكلة، لأنّ الطلب الداخلي» يصبح كافياً.
الأشقر: التصدير لن يمثّل مشكلة، لأنّ الطلب الداخلي كافٍ!
من جهة، هناك انعكاس إيجابي على قطاعات متفرّقة أخرى «فإذا بحثت لدى جميع مكاتب تأجير السيّارات فلن تجد سيّارة واحدة» وفقاً للأشقر، وهناك أيضاً الفوائد المسجّلة في شركة الخطوط الجويّة الوطنيّة «طيران الشرق الأوسط» (MEA) مثلاً. وفي قلب القطاع السياحي حيث الوقع الأساسي للنمط السائد هناك «مشاريع لبناء ثلاثة آلاف غرفة فندق بدأت منذ عام 2004 تبلغ قيمتها ملياري دولار ستوفر أكثر من ستّة آلاف فرصة عمل» يقول الأشقر. ومن شأن تلك المشاريع أن تنعكس إيجاباً على التشغيل والقطاعات الأخرى التي تكتفي بحصّة 25% من النشاط الاقتصادي، فيما النسبة الباقية تستأثر بها السياحة والخدمات.
لكن هل يحمل القطاع السياحي بالفعل بين طيّاته بذور النموّ الاقتصادي المتين والتنمية الشاملة؟ هل تتكرّس معادلة: الاستقرار السياسي والأمني يعني انتعاش السياحة والخدمات ما يمكن التعويل عليه لتحقيق النموّ المستدام؟
من المؤكّد أنّ السياحة في لبنان شريان حيوي للقطاعين العام والخاص، تماماً مثلما كان الوضع تاريخياً مع القطاع المصرفي. لكنّها ليست بالضرورة طريق المعجزة لتحقيق نهضة اقتصاديّة، ما يطرح تحدّيات عليا في شأن كيفيّة استغلال عائداتها والمقوّمات الأخرى التي يتمتّع بها الاقتصاد.
صندوق النقد الدولي يتحدّث في ورقة بحثيّة أصدرها أخيراً معنونة بـ«الاختصاص السياحي والتنمية الاقتصاديّة: برهان من لائحة التراث العالمي من بلدان الأونيسكو»، عن أهميّة القطاع السياحي في النموّ. ويقول إنّ «نموّ إحداثيّة واحدة (مطروحة في محدّدات البحث) في النشاط السياحي يؤدّي إلى زيادة النموّ السنوي بواقع 0.5 نقطة مئويّة. وأيّ نموّ بهذا المعدّل لا يجب تجاهله».
وفي لبنان التخصّص السياحي موجود من حيث المرافق الأساسيّة التي تنعم بدفق المال الأوروبي والخليجي، وتحديداً العربي الذي مثّل «منفقوه» 48% من مجمل السيّاح حتّى نهاية تمّوز الماضي.
لكن رغم التنويه بهذه الأهميّة، تنبّه ورقة صندوق النقد إلى ضرورة التفكير جيّداً في كلفة استراتيجيّة تنمويّة قائمة على القطاع السياحي مقارنة بقنوات تنمويّة أخرى، وتحديداً بالمقارنة مع تجربة «المعجزات الآسيويّة» أو تجارب التنمية اللافتة التي سجّلتها بلدان جنوب شرق آسيا التي سمّيت في تسعينيّات القرن الماضي «النمور الآسيويّة».
وتوضح الورقة تلك الرؤية بالقول إنّّ «من المرجّح أنّ (القطاع) السياحي النامي يتطلّب مقداراً أقلّ من رأس المال والبنى التحتيّة والعمالة الماهرة مقارنة باستراتيجيّة نموّ قائم على التصنيع والتصدير».
ولإيضاح هذه النقطة يقول البحث، الذي يعتمد على أسس علميّة وثوابت لتسهيل الاستنتاج، إنّ «اقتصاداً ناشئاً تقليدياً ينمو سنويّاً بمعدّل 1% وتمثّل السياحة فيه 8% من صادرات السلع والخدمات، لن يستطيع أن يرفع معدّل نموّه إلى 6% إلّا إذا رفع حصّة السياحة من الصادرات إلى 70%، أي ما يمثّل 10 أضعاف المعدّل التقليدي، وأقلّ ما يمكن قوله أنّ هذا الهدف لا يمكن تحقيقه».
ولهذا الاستنتاج قاعدة علميّة أساسيّة تفيد بالآتي: النموّ الثابت والمستدام يستقي قوّته من القدرة على إدخال مقوّمات تكنولوجيّة جديدة في كلّ مرحلة وإعادة توزيع العمالة التي تكون قد أصبحت ماهرة طبعاً، لإنتاج السلع المطلوبة. فالإنتاجيّة تكتسب زخماً وخبرة كبيرين في مراحل الإنتاج الأولى. وبطبيعته يمثّل القطاع السياحي، وفقاً للورقة البحثيّة، جوانب مختلفة، فهو يعتمد على مجموعة محدّدة من الخدمات التي تنتج في ظلّ هامش ضيّق للتوسّع وإعادة توزّع العمالة.
إذاً هل نودّع طموحنا بمقدرة معجزتنا السياحيّة على تحقيق معجزة اقتصاديّة؟ نظرياً، نعم، لكن ليس لدينا شيء الآن للأسف سوى السياحة لنتّكئ عليه!


4 في المئة

هو معدّل النموّ الاقتصادي المتوقّع في لبنان خلال عام 2009 وفقاً لتوقّعات صندوق النقد الدولي، فرغم أنّ الاقتصاد يبدو نائياً عن تداعيات الأزمة الماليّة غير أنّه سيتأثّر لدرجة أنّ المعدّل يساوي نصف النسبة المسجّلة في العام الماضي



الجميع متحمّس للمجيء