عبد الحليم فضل اللهما زالت قضية الخصخصة تدور في أروقة السياسة وفي مكاتب صائدي الثروات في الداخل والخارج. لم تتقدم كثيراً، لكنها بقيت في صدارة البرامج الحكومية. بعد انتخابات عام 2005 افترض صانعو السياسات في لبنان أنّ التغيرات في موازين القوى الداخلية والخارجية تسمح بإلقاء حبل السياسات الاقتصادية على غاربه، لم يعد هناك من رقيب خارجي يعطّل انسياب السياسات، أو اتئلافات داخلية تمنع استئناف ذلك المشروع الاقتصادي الذي ولد مع سوليدير ثم تعثرت خطواته التالية. منذ البداية كان النقاش منصبّاً على رسم الأدوار بين القطاعين العام والخاص، والمعادلة التي أريدَ تكريسها بكل بساطة هي أن يقود القطاع الخاص عربة الاقتصاد فيما تتولى الدولة إزاحة العقبات من سبيله.
لقد مثّل خيار الخصخصة الإطار الحيوي الشامل لهذه المعادلة، وكان المعيار الذي يُستند إليه لإعادة تقويم السياسات وإعداد البرامج أو تعديلها. ومع ذلك لم يجر توطين هذا الخيار ليتناسب مع أوضاع لبنان وبيئته الخاصة. فهذا البلد يختلف عن دول العالم الثالث التي اعتمدت في مرحلة ما التأميم الشامل، ويمتلك القطاع العام فيها أو يدير أجزاء واسعة من القطاعات الإنتاجية، كذلك يختلف عن دول الرفاهية الشاملة الأوروبية التي نجحت في إيصال الخدمات العامة إلى أوسع دائرة ممكنة من المستفيدين، وفي وسعها، تحت شعار الخصخصة، القيام بمبادلة معقولة بين خفض العبء الضريبي المخصّص أصلاً لتمويل برامج الرعاية الاجتماعية السخية، ونقل جزء من الخدمات العامة إلى القطاع الخاص. ولا يندرج لبنان حكماً في إطار النموذج الانكلوساكسوني الذي قام أساساً على التشابك والترابط ما بين الدولة وقطاع الأعمال، وحين بدأت برامج البيع الشامل للمرافق المملوكة من الدولة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، كان الهدف هو مساعدة الاقتصاد على الخروج من دورة الركود وتحسين حظوظ الشركات الأميركية في الفوز في السباق مع المراكز الرأسمالية الأخرى، من خلال الاستحواذ على مزيد من الاحتكارات الوطنية في الدول النامية.
الورقة الحكومية إلى باريس 3 مثال واضح على هيمنة غير مبرّرة لفكرة الخصخصة
وعلى الرغم من أن خيار الخصخصة بقي حاضراً بقوة في معظم البيانات الوزارية والبرامج الحكومية وخيضت من أجله معارك سياسية ضارية، فإنه لم يتمكن حتى الآن من شقّ طريقه، عدا استثناءً يتيماً هو النجاح في خصخصة الفضاء المديني لوسط العاصمة. والمشكلة لا تكمن في المعارضة القوية التي تواجه هذه العملية وتنازع المصالح بين المعنيين بها، بل في وجود قصور مزمن في آلية اتخاذ القرار الحكومي وفي بنية الإدارة العامة، يجعل من الصعب تنفيذ عمليات كبرى كهذه وإدارتها بالسرعة اللازمة.
والتمسك بفكرة البيع الشامل للمرافق العامة أمر مثير للاستغراب، إزاء انكسار النزعة المعادية للدولة في العالم والاعتراف بها مجدداً ملاذاً أخيراً في الأزمات. والمطروح في لبنان هو خصخصة لا تميّز القطاعات، ولا تتبنى أهدافاً واضحة. فإذا كان المبرر هو تحسين جودة الخدمات وزيادة الإنتاجية والكفاءة، فإن أداء القطاعين العام والخاص كان متشابهاً، وخصوصاً في ظل الاحتكارات. وإذا كان الهدف هو تحرير أسواق الخدمات، فمن الممكن تحقيق ذلك دون طرد الدولة تماماً من الأسواق. أما إذا كان الغرض هو الاستفادة من حصيلة البيع لإطفاء جزء معتدّ به من الدين العام وقلب دينامية نموّه، فالوقت متأخّر لفعل ذلك، ولن تتعدّى الحصيلة القصوى المتوقعة لبيع ما يمكن بيعه من المرافق العامة 15% من مجموع الدين العام، أي ما يقل عن قيمة رصيد الذهب المملوك من الدولة.
الورقة الحكومية المقدمة إلى مؤتمر باريس 3 مثال واضح على الهيمنة غير المبررة لفكرة الخصخصة. قالت تلك الورقة أشياء كثيرة لتقول شيئاً واحداً، هو التخلّي عن المؤسسات العامة المربحة للحصول على دفق مالي، يؤدي إلى خفض معامل الدين/الناتج بضع نقاط مئوية. الفرضيات غير المعلنة في برنامج الحكومة، كشف عنها تقرير صندوق النقد إلى الحكومة الذي سبق المؤتمر. التقرير والبرنامج صارا من الماضي، لكنّ المنهج المعتمد فيهما مثير للقلق، إذ يدعو الدولة إلى التخلي عن ممتلكاتها القيّمة دون سبب مقنع. يتوقع تقرير صندوق النقد حصيلة بيع جزئي لقطاع الاتصالات تتراوح بين ثلاثة مليارات وأربعة مليارات ونصف مليار، تأتي على دفعات. وبحساب بسيط، يتبيّن أن القيمة الحالية لهذه الحصيلة تساوي إيرادات القطاع لثلاث سنوات أو أربع على الأكثر، بينما تفترض أبسط قواعد الخصخصة أن تساوي إيرادات البيع القيمة الحالية للتدفقات المتوقعة على مدى فترة زمنية طويلة تصل إلى عشرين سنة.
هناك فشل مزدوج في مسألة الخصخصة. المعارضون لها لم يفلحوا في سحبها من جدول الأعمال الوطني أو خفض رتبتها في سلّم الأولويات، أما المتمسّكون بها فلم يتمكّنوا من تجنيد الطيف السياسي الداخلي من أجلها، فبقيت بنداً خلافياً مثيراً للجدل والصخب، وغير قابل للتطبيق. هذا ما يدعو إلى القيام بمراجعة شاملة لسياسات الخصخصة، وهناك أشياء أخرى تدعو إلى ذلك أيضاً: الأزمة المالية العالمية، التداخل المريب بين المصالح العامة والخاصة، وهن العلاقة بين الملكية والكفاءة والمنافسة، تضخّم الدين العام الذي بات يساوي أضعافاً مضاعفة للأصول العامة القابلة للبيع وضعف هيئات الرقابة،.. وفي انتظار بلورة شاملة للسياسات الإصلاحية، يمكن التخلي، وإن المؤقت، عن خيار الخصخصة الشاملة، والانصراف بدلاً من ذلك إلى تنظيم الدولة وزيادة قوتها.