يترقّب الشارع المصري تداعيات زيارة الرئيس حسني مبارك إلى واشنطن. زيارة يبدو أنها أعطت مبارك الضوء الأخضر لإكمال مسيرة «خصوصيّة» الديموقراطية المصريّة، التي ربما تعني تقليصاً للمنجزات السابقة، في وقت تثبت فيه حركات الاحتجاج، أو «الديموقراطية من الأسفل» نجاعة تسمح بتعميمها
وائل عبد الفتاح

«بطاقة تهدئة» من أوباما لمبارك


أصيبت القاهرة بالشلل... ومبارك في واشنطن. بالتحديد القاهرة الفقيرة المعتمدة على حافلات النقل العام. ١٥ ألفاً من سائقي الحافلات العامة قرروا المطالبة بحقوق قديمة، امتنعوا عن الخروج من الكاراجات، ومنعوا مجموعات من «سائقي المباحث» الذين استعانت بهم الهيئة الحكومية لكسر الإضراب. المطالب بسيطة جداً (إلغاء مخالفات المرور الشخصية، وبدلاً من أن يكون بدل التغذية ١٢٠ جنيهاً، أي ٢٠ دولاراً، عن ٢٧ يوماً، أن يكون عن ٢٠ يوماً فقط. وأخيراً تغيير الزي الرسمي كل عام لا كل ٥ أعوام).
لكن الحركة جديدة. وتأتي في سياق الصدمات غير المتوقعة للنظام وربما المعارضة الرسمية نفسها. لم يكن ممكناً قبل سنوات أن يفكر سائق في الامتناع عن قيادة أوتوبيس عمومي. إنها «قضية أمن دولة» يستطيع ضابط صغير أن ينهيها قبل الخروج من مكتبه. لكن الإضراب نجح، وأعلن رئيس الحكومة نفسه الاستجابة لمطالب المضربين.
لم يكن ممكناً ليّ ذراع «خفير نظامي» في قرية منسيّة، لكن «شلل» العاصمة أصاب الحكومة بالرعب ودفعها إلى الرضوخ وعادت الحافلات إلى الشارع وسط شعور بالانتصار تناوشه من بعيد مخاوف من مضايقات المسؤولين في الهيئة (الإضراب ارتبط بكشف فساد في الإدارة) أو مطاردات أمنية للانتقام من قادة الإضراب.
لكن الإضراب نجح، وأضاف مكسباً جديداً إلى حركة الديموقراطية من أسفل. تلك التي بدأت بثقافة الاحتجاج بين قطاعات ضخمة عاشت سنوات الصمت والخوف، نسيت خلالها حق الإضراب والاعتصام.
تسرّب الاحتجاج من شقوق أحدثتها حركة تركّزت على مقاومة التوريث، مطالبةً بديموقراطية الانتخابات، وشفافية اختيار رئيس الجمهورية المقبل. حركة ديموقراطية من أعلى أحدثت خربشات في الجسد الضخم للنظام، وكسرت حواجز الخوف وشجّعت قطاعات مكبوتة على الاحتجاج، لتشهد مصر أكبر عدد من الاحتجاجات في تاريخها خلال السنوات الأخيرة. ولا يكاد يمر يوم واحد من دون «وقفة احتجاجية».
الاحتجاج يتحوّل بالتدريج إلى مطالبات. بدأت بأحداث كبيرة؛ إضراب عمال المحلة وموظفي الضرائب العقارية. وبعض التحرّكات تعاني الإحباط والفشل، كما يحدث حالياً مع إضراب خبراء وزارة العدل، الذين يقترب إضرابهم من اليوم الخمسين من دون استجابة تذكر ولا تفهّم لمطالب (عدّتها بعض قوى المجتمع، لا النظام، فقط مُبالغاً فيها). لكنهم مستمرون، ولقد تحوّلوا إلى مشهد مألوف على سلالم وزارة العدل.
الحركة من أسفل مفصولة بطريقة ما عن المناوشات حول الرئاسة. وتحرص حركة المطالبات على تحييد الرئيس. وفي إضراب السائقين، بعد اليوم الأول، طالب المضربون بحضور جمال مبارك الذي كان موجوداً في واشنطن على هامش زيارة أبيه.
لم يشعر مبارك طبعاً بشوارع القاهرة المرتبكة، ولا بتصلّب شرايين حركتها بسبب منع الحافلات من الخروج إلى الشوارع، لكن مبارك عاد سعيداً من واشنطن. البعض عدّه منتصراً في «عملية اختراق البيت الأبيض».
وقد يكون في هذه الصورة جانب من حقيقة. انتصر فيها على خصومه في حرب الخلافة أو الديموقراطية من أعلى. أوباما قرر تغيير الأجندة الأميركية. لم تعد الديموقراطية هي البند الأول، وهذا ما جعل مبارك يتنفّس بحرية ويبالغ في رد اللفتة الطيبة بأحسن منها ويريح الرئيس الأميركي من معاناة الحصول على قرار إسرائيلي بوقف بناء المستوطنات، ويترك له الشرفة كلها ليتسرب منها، حين قال له: «يمكننا الدعوة إلى مفاوضات الحل النهائي».
وهذه صيغة أكثر مرونة تريح الساحر، الذي لا يزال غير مدرب على ماراثونات السياسة الدولية، وتنهكه الملفات الداخلية المعقّدة. أوباما كرر في حضور مبارك أن لكل بلد خصوصيته في تطبيق الديموقراطية. وهذا يعني أنه يتناسى المعايير القياسية المطبّقة في العالم لمصلحة شيء غامض مريح للحكام وهو «الخصوصية».
هدف أوباما الأول هو التسوية أو التهدئة في الصراع العربي الإسرائيلي. ومبارك يمسك خيوطاً كثيرة في «المبادرة الأميركية». وفي مقابلها سيحصل من أوباما على «بطاقة تهدئة» على صعيد الضغوط الخاصة بالديموقراطية.
هذا سر سعادة مبارك في واشنطن. وربما سر غضب أو خوف الحياة السياسية في مصر من إنهاء «شهور العسل» التي جاءت عبر دعم ومساندة ضغوط المجتمع الدولي لمحاولات إفاقة المجتمع، الذي ظل شبه نائم وفي غيبوبة الصمت الرهيب أكثر من ٥٠ سنة.
قوة المجتمع عادت ببطء ومعاناة، لكنها بدأت تعود فعلاً. لا يمكن إنكار الإفاقة التي حدثت وإشاراتها المتعددة؛ جرأة الصحافة (لا حريتها. لان الجرأة فعل خاص بأصحابه. لكن الحرية هي مؤسسات ونظام كامل للعلاقة بين الصحافة والسلطة). نمو روح الاحتجاج والمطالبة بالحقوق وقدرة مؤسسات مدنية على تغيير بعض القوانين وإيقاف طغيان النظام في بعض القطاعات.
هذه إشارات انتزعتها قوى حية في المجتمع المصري، وبمساندة من المجتمع الدولي وعيونه المفتوحه (مجرد اهتمامه بمراقبة ما يحدث في مصر). قوة المجتمع لم تعد كاملة طبعاً. والديموقراطية التي تحقّقت هي «ديموقراطية نظام» سمح غصباً عنه بما لم يكن يسمح به من قبل، لكنها ليست «ديموقراطية دولة». والفرق كبير بين اضطرار النظام إلى أن يبدو ديموقراطياً. وبين ديموقراطية دولة لها قواعد راسخة ليس بإمكان أيّ نظام اللعب فيها. مبارك حصل على بطاقة خفض الضغوط إلى مستوي النصائح، وهذا ما يثير رعب المجتمع المدني، الذي لا يزال يحبو. لكنها قد تكون فعلاً بداية مرحلة ثانية تتغير فيها أساليب العمل.
هل يمكن أن تنسج القوى اليقظة شبكة حماية للديموقراطية بعيداً عن لعبة المصالح بين القاهرة وواشنطن؟ أم سيعود عصر الهامش الديموقراطي و«الديموقراطية خطوة خطوة».
هل خسرت حركة المجتمع المدني الكثير من رحلة مبارك لواشنطن؟ هل الحل في استمرار معارك الديموقراطية من أعلى أم من أسفل؟

أفكار تمنع التفكير




تهيمن على مصر حالة من الركود الفكري. حالة متفشّية في الشارع، الذي يبدو مصرّاً على رفض التجديد، والاكتفاء باستيراد أفكار من الخارج، إذا كانت تتلاءم مع حاجاته الاستهلاكيّة

تسيطر على مصر أفكار تمنع التفكير. مثلاً يردّد بعض أهل الإعلام والصحافة الرياضية أن طريقة 4 ــ 4 ــ 2، المعتمدة في ملاعب كرة القدم، لا تصلح للاعب المصري. وكأن اللاعب المصري أعجوبة رياضية أو كائن منقرض لا بد أن يوضع في أقفاص زجاجية. وكأن كرة القدم لعبة ثابتة لا تتغير قواعدها أو لا يمكن التخطيط أو المغامرة بتجريب وسائل أخرى.
هذه الأفكار تمنع التفكير في التجديد أو تطوير القدرات بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تجعل اللاعب المصري أعجوبة خارج التاريخ. المدير الفني للنادي «الأهلي»، حسام البدري، أصرّ على استخدام أسلوب اللعب الجديد، وعلى مغامرته بعيداً عن الضجيج الإعلامي الرافض للمغامرة والرهان على شيء لم نعرفه بعد.
الفكرة الجديدة مرفوضة غالباً. و«اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش»، حكمة شعبية ربما تنجح في مجال العلاقات الاجتماعية أحيانا، لكنها لا تصلح لكل شيء. هي ضد تيار آخر مشغول بما لا يعرفه. هذا التيار هو الذي يصنع التطورات المذهلة في تاريخ حياة البشر، ويجعل المستحيل ممكناً.
فنان ترك مهنة الطب، لكنه لا يزال متابعاً لمغامرات مقاومة المرض، وخصوصاً عندما تطارد أصدقاء وأقرباء، لفتت نظره مقاومة صديقه المفكّر بنوع جديد من دواء يشير فقط إلى الخلايا المصابة ليوجّه إليها العلاج الكيماوي طاقته الحيوية.
تحدث الفنان عن شجاعة صديقه الذي غامر بالتجربة، مشيراً إلى أن البشرية غالباً ستكتشف علاجاً للسرطان في يوم قريب، وساعتها ستدرك أنه كان شيئاً تافهاً لا يستحق كل هذه المعاناة والألم والرعب. وهي تجربة يعرفها من جرّبوا حقن علاج البلهارسيا، وكانت تحدث ألماً عنيفاً عدّه البعض، من قبيل المبالغة، «أصعب من ألم البلهارسيا نفسها». العلاج الآن أقراص سهلة البلع، من يرَها اليوم لا يمكن أن يربطها بالحقن المرعبة التي تصوَّر أبناء مستوطنات البلهارسيا في الدلتا والصعيد أنها آخر «مشوار» مقاومة المرض اللعين.
المغامرة في 4 -4- 2 مثل البحث عن طريقة أذكى في علاج الأمراض التي تبدو في بداياتها قوية وفتّاكة.
في السياسة أيضاً تنتشر بين عموم الناس أفكار تمنع التفكير. مثلاً، لا بديل للرئيس مبارك، أو من سيكون أفضل من جمال مبارك؟ وهل تريدون أن ينجح الإخوان المسلمون؟
خصوم الإخوان تأخذهم لعنات الرعب، ويفكّرون في أسئلة بسيطة. ماذا سيحدث إذا وصل المرشد إلى كرسي الرئاسة في انتخابات ديموقراطية؟ هل يمكن الشعب أن يغيره في الانتخابات التالية؟ هل يستحق الخوف من الإخوان إلغاء الديموقراطية؟ هل ضريبة النجاة من حكم جماعات تخلط السياسة بالدين هو شرب جمال مبارك المرشح الوحيد الذي لا بديل له؟ لماذا لا يجري التفكير في تطوير النظام السياسي ثم يأتي من يأتي، جمال أو الإخوان أو من يفتح له النظام الجديد باباً كان مغلقاً؟ لماذا يفرض حكماء سريّون الوصاية على المجتمع المصري ويرون أن الديموقراطية مثل 4-4-2 ستؤدّي إلى هزيمة وكارثة؟ لماذا لا نحتمل أعباء التغيير وندافع عن الحق في التجربة لاكتشاف ما لم نكن نعرفه من إمكانات؟
رواج أفكار من النوع الذي يعطّل التفكير هو أحد أسباب حالة الجمود. لأننا نريد أن نجرب ما نعرفه فقط، ونخاف مما لا نعرفه. رغم أن الحياة مزيج بين المعرفة والمغامرة. ولهذا فإن مصر تبدو كياناً ضخماً وجبّاراً، لكنه قديم. صحته ضعيفة. ويستحق الرثاء. تسمع وتشعر وتعرف أن مصر كبيرة ورائدة ولا يمكن اختصارها في مصافّ الدول المتخلّفة. لكن في الوقت نفسه مقيّدة بأفكار قاتلة. يسيطر بها أصحاب المصالح على السلطة والثروة والقوة.
كل شيء في مصر معروف سلفاً، من علاقات الحب إلى مستقبل الحكم. وهذا ما يجعل كلمة «سيناريو» منتشرة في الحديث عن خلافة الرئيس مبارك. لأن هناك تصوراً بأن كل شيء معدّ ومتّفق عليه وفق خطة وضعها سيناريست سري.
لا مساحة للخروج عن النص أو مفاجأة تدهش الجميع وتجدد الهواء الراكد. ربما فقط مغامرات المال في زمن رمضان. هو موسم المواسم. زمن وحده. تتوقّف الحركة بالتدريج إلى أن تتغيّر إيقاعاتها مع بداية الشهر، الذي يرتبط بوصف «الكريم». وصف ديني واجتماعي. فهو شهر الحسنات الإلهية والعطايا الكريمة من الأغنياء للفقراء .
في الأسبوع الأول سيلتهم المصريون 40 مليون دجاجة ويشاهدون مسلسلات صرفوا عليها 280 مليون جنيه (أكثر من 50 مليون دولار) وينفقون على إعلانات تقارب مليار جنية. بينما هو في الوقت نفسه شهر الزهد والتأمل والعبادة. ليتحول إلى شهر الاستهلاك وإنتاج التسلية التافهة والتلذّذ بالشراهة.
الحكومة عدّلت التوقيت الصيفي ليواكب رمضان. وغيرت مواعيد الدراسة لتترك ديناصورات الإعلان يديرون البلد كله شهراً واحداً. يفكرون ويسرقون أفكاراً من كل العالم ويقدمونها مقلّدة بالنص، وعندما يكشفهم شطّار التكنولوجيا الحديثة يواجهون هذا كله بوقاحة فريدة ويقولون «شاهدوا الكليبات المقلّدة». ويضيفون «المصري أحلى».
كأن التقليد أصبح هو الابتكار الوحيد أمام شريحة تملك المال وتهيمن على العقل والحواسّ 30 يوماً كاملة. لا أفكار حتى مع المال المفرط.