مذكرات القاسمية (3)«حاج تمشي وإجريكي حافيين، إلبسي بإجرك أحسن ما يكبروا!». هكذا كانت تهددني أمي عندما أخرج إلى الشارع كي ألعب مع الأولاد. حتى خالتي «سعاد» كانت أيضاً تهدد أولادها، حتى أصبح المساكين يصدقونها فعلاً بأن «الحفّاي» لم تعد تتسع لأقدامهم «لأنهم ما سمعوش الكلمة». أتفهّم تماماً موقف أمي وخالتي من «الحفّاي» البلاستيكية، رغم قباحة شكلها ولونها. فالزجاج منتشر على طول الطريق، «وما في أكتر من البحص بالشارع». كانتا تخافان من أن نصاب بالأذى رغم المناعة التي يكتسبها أولاد المخيم والتي تمكّنهم من المشي حتى على الجمر. «الحفّاي البلاستيكية» هي عبارة عن «مشاية حمام» بنية اللون، قبيحة التصميم، لكنها متينة صعبة الاختراق، والأهم من هذا كله أنها رخيصة الثمن ويمكن شراؤها من دكان «أبو طارق» على باب المخيم. الحقيقة المؤسفة هي أنني لم أكن أحب انتعالها، ليس لأنها «بِشعة»، بل لأن معظم أولاد المخيم لم يكن بمقدورهم شراء مثلها حتى لو كانت بثلاثة آلاف ليرة (أي دولارين). فالبعض كان يلعب حافي القدمين، والآخر كان يتناوب على «الحفّاي» مع إخوته. أما أصحاب «البرستيج» فكانوا يلبسونها دوماً، و«البورجوازيون» كانوا يلعبون «بالصباط» أو «الصندل». و«الحفّاي» كانت متوارثة بالطبع، فعندما تُصبح ضيّقة تُعطى للأصغر سناً، وإن لم يكن من أفراد العائلة، المهم بالطبع أن يكون ابن المخيم. لم أكن أرغب في أن أكون إلا من الفئة الأولى، «مخيمجية» حتى لو كنت أتعثر خلال المشي على البحص. كنا نهنئ بحرارة كل ولد يحصل على «الحفّاي»، علماً بأننا كنا نخلعها على باب بيت خالي «أبو عكر» الذي ترك المخيم مهاجراً الى ألمانيا، حلم جميع شباب مخيم القاسمية، لنعود إلى اللعب حفاة الأقدام. لكن لم تكن «الحفّاي» دائماً المُنقذة من الأذى، بل أحياناً كانت المسببة له، وخاصة أن الأمهات كنّ يستخدمنها لضرب أولادهنّ، فهي أقل أذى من «نبريش الغاز» وأقوى من «شرطان الكهربا»، حتى إنني أعتقدت أن مدرسة الأونروا في المخيم اشترت كمية من «الحفّايات» كي «تقاصص» الأولاد المشاغبين فيها. لم أُضرب «بالحفّاي» مرة واحدة، لكنني سمعت بأنها «بتوجّع»، فحقدت عليها كثيراً.
بنات خالي الصغار يلبسنها اليوم، وربما لبسها أولادهن غداً، حتى تصبح «الحفّاي» من أهم معالم مخيم القاسمية. «حفّاية» واحدة بقيت صامدة لأكثر من عشر سنوات، حفّاية خالي محمد «أبو عكر» الذي سافر ولم يعد. لا تزال ستي تحتفظ بها وتعرضها أمام أحفادها الذين وُلدوا بعد سفره. لا صورة، لا مفتاح بيت، لا دكان، بل «حفّاي» بُنّية قبيحة الشكل كان يلبسها هو أيضاً ويتمشى بها في المخيم.
إيمان بشير

■ ■ ■

أصبح عندي الآن... حفّاية
لعل الاحتفاظ بالحفاية أو «بابوج»، هذه الأيام، من الأشياء الصعبة على الشعب الفلسطيني. قد يحاول الاحتفاظ بها لأطول وقت ممكن، لكن عبثاً. جيلاً وراء جيل بات سهلاً على الفلسطيني أن يفقد الأشياء، «حتى الحفاية». شعب صمد كثيراً، لكن رغم صموده، لا يزال يفقد الأشياء: الأرض، البيت، المفتاح. لعل الاحتفاظ بحفاية للعب بالحارات والمخيمات أمر ممتاز ما زلنا نحتفظ به. حقيقة! لم أزر مخيماً في حياتي، رغم أنني فلسطينية وأعيش بالقد. لكن زيارة المخيم أمر مخيف أو لا يخطر ببال شخص. مرّة قالت لي صديقتي: «نفسي أزور مخيم»، فقلت لها: «يعني مخيم صيفي؟ ولا مرّة سجلتي في مخيم صيفي؟» قالتلي: «لأ، مخيم لاجئين فلسطيني. نفسي أشوف كيف بيكون». لم أُجبها، لأن هذا شيء لم يخطر ببالي، لكني كنت دائماً أتخيل أنه مكان فيه الكثير من الغُرف والناس، ممرات ضيقة، وضع اقتصادي سيئ، وخصوصاً مخيمات لبنان. لكن ذات مرة، قال لي صديق شيئاً أخافني، هو أنه «ليس في المخيم قطة تتمتع بذيلها». كان يقصد مخيم بلاطة قرب نابلس. لم أزر مخيماً قط، لكني أخذت فكرة من تلك العبارة.
في القدس، إن كنت تملك قطعة أرض وتستطيع أن تورثها لأولادك أمر ممتاز. أن تملك بيتاً وتورثه لاولادك، غير مهدوم أمر ممتاز. نحن في فلسطين نمشي على أرضها، نتنفس من هواها، نلمس أرضنا وكل شيء فيها، لكننا محرومون المحافظة عليها. إن زرعت أرضاً في أي لحظة، فهي معرضة لتخريب المحصول. إن بنيت بيتاً في اي لحظة، فأنت معرّض لقرار أمر بالهدم سيُنَفَّذ بعد 10 ساعات.
أما أنتم أهل الشتات، فصحيح أنكم لا تملكون إلا ما حمله أجدادكم من حفنة تراب أو مفتاح أو حجر أو ذكرى. لكن هل تظنون أنّ من السهل المحافظة عليها في هذا الزمن؟ ما زلت أعتقد بأن المحافظة على حفاية أمر ممتاز! هناك، رغم أنكم عرب، محرومون امتلاك أرض عربية. لا تستخفوا بالحفاية، فهي حتى هذه اللحظة مسموح بها. أُم كلثوم غنّت يوماً «أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني معكم». قبل عشرات السنين كنا نملك بندقية، لكن شوية شوية، راحت منا. الآن بالمخيم، رغم صعوبة الحال، نستطيع أن نقول: «أصبح عندي الآن حفّاية، إلى الملعب خذوني معكم». لا تستخفوا بالحفّاية. يمكن شوية شوية، تروح منا: فلا يعود باستطاعتنا اللعب، ولا أن نرجع إلى فلسطين.
القدس ـــــ رنا عزيز