انتعاش في أعمال البنى التحتيّة وركود في القطاعات الأخرىرغم الاحتياطات الماليّة الضخمة التي راكمتها بلدان الخليج العربي منذ بداية الألفيّة الثالثة مع بدء ارتفاع أسعار النفط تدريجياً، ورغم الفورة غير المسبوقة في قطاعات عديدة جذبت بقوّة اليد العاملة الأجنبيّة المتخصّصة والعاديّة، لم تكن ككل البلدان في منأى عن تداعيات الأزمة الماليّة الاقتصاديّة. وشهدت أعمال مؤسّساتها وشركاتها ومصارفها ركوداً غير مسبوق، أدّى إلى إعادة هيكلة الأعمال.
سوق العمل المكوّنة في بعض بلدان مجلس التعاون الخليجي من أكثر من 80% من العمالة الأجنبيّة شهدت منذ الفصل الأوّل من العام الجاري نزفاً. وإن كانت معدّلات البطالة فيها لا تؤثّر كثيراً على «المواطن الخليجي»، نظراً للمعطى المذكور، إلّا أنّها تمثّل أزمة للعمّال الأجانب الذين هجروا بلدانهم أساساً هرباً من شبح البطالة والضيق الاقتصادي، والآن عليهم التعاطي مع سوق خليجيّة بدأت تتعقّد بحكم مكابح الإشباع الحاليّة. فما مصير العاملين اللبنانيّين في المنطقة النفطيّة، وماذا يمكنهم توقّعه من سوق عملها؟

مساحات تضيق

تمثّل بلدان مجلس التعاون الخليجي (السعوديّة، الإمارات، البحرين، قطر، سلطنة عمان، الكويت) مصدر أكثر من 85% من تحويلات المغتربين اللبنانيّين الذين بدأوا الاستقرار في ذلك الإقليم النفطي منذ نهاية ستينيّات القرن الماضي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ عدد المغتربين حالياً يبلغ حوالى 620 ألف لبناني حوّلوا في العام الماضي ما يقارب 6 مليارات دولار بحسب البنك الدولي.
وتبرز أهميّة هذا الواقع من منطلق أنّ معدّل هجرة اللبنانيّين مستمرّ بنسق ثابت تقريباً، حيث لا تستطيع السوق المحليّة استيعاب أكثر من 25% من المتخرجين بحسب التقديرات المحافظة.
لكن سوق العمل الخليجيّة تتأثّر مباشرة بالأوضاع الاقتصاديّة العامّة، وتحدث بالتالي إعادة ترتيب للأولويّات ولمراتب الاقتصادات المقصودة بهدف العمل.
وفي هذا الصدد، تقول دراسة حديثة أعدّتها مؤسّسة «Gulf Talent» إنّ حصّة دبي مثلاً من التوظيف الإقليمي تراجعت من 43% في النصف الأوّل من عام 2008 إلى 30% في الفترة نفسها من العام الجاري. لترتفع في المقابل حصّة أبو ظبي وترفع معها نسبة التوظيف في الإمارات من التوظيف الخليجي العام من 14% إلى 23%.
والخاسران الآخران كانا الكويت والبحرين، اللتين تراجعت حصّتهما من 10% و7% إلى 7% و4% على التوالي. أمّا الرابحون فكانوا السعوديّة وقطر وسلطنة عمان، حيث ارتفعت حصصهم بواقع 5 نقاط مئويّة و4 نقاط مئويّة ونقطة مئويّة واحدة إلى 20% و13% و3%.
لكن وفقاً للدراسة نفسها، فإنّ عدداً أكبر من العمّال الأجانب يهجرون الإمارات العربيّة المتّحدة والبحرين مثلاً مقارنة بالعام الماضي، لكن نسبة الذين يعربون عن رغبتهم في ترك الإمارات بحثاً عن فرصة عمل أفضل في بلدان خليجيّة أخرى تبقى الأدنى مقارنة بالمعدّلات المرصودة في المنطقة ككلّ. فتلك النسبة بلغت في النصف الأوّل من العام الجاري 26% (مرتفعة من 16% في عام 2008)، فيما وصلت إلى 55% و74% و66% و78% في السعوديّة والكويت وقطر والبحرين، وسجّلت معدّلاً قياسياً في سلطنة عمان حيث تبلغ 84% بعدما كانت العام الماضي 92%.
أمّا أنواع الأعمال الأكثر تأثّراً بالأزمة الماليّة وتراجع النشاط الاقتصادي في منطقة الخليج فيتّضح بحسب الدراسة أنّها الاستثمارات وما تتضمّنه من إدارة أصول ومحافظ ماليّة وأسهم. فقد تراجعت طلبات البحث عن أعمال متعلّقة بهذه الفئة بنسبة 48% في النصف الأوّل من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وتبعت هذه الفئة مجموعة الأعمال المتعلّقة بالإدارة حيث سجّل هنا تراجع في البحث عن الوظائف المرتبطة بنسبة 47%. وفي فئة الوظائف المرتبطة بالتسويق بلغت نسبة التراجع 46%.
وفي مجموعات الأعمال والظائف المتعلّقة بإدارة الموارد البشريّة والمحاسبة ومبيعات التجزئة والمبيعات عموماً، انخفض الطلب على الوظائف بنسبة 34% و32% و26% و23% على التوالي.

من الرابحون؟

في المقابل، أدّى ارتفاع الإنفاق من جانب الحكومات الخليجيّة بهدف تحفيز الطلب وخفض تأثير الركود وتراجع أسعار النفط، إلى ازدياد في الطلب على الوظائف المرتبطة بالبنى التحتيّة.
فالوظائف المطلوبة في تجهيزات المطار وتصميم الطرق السريعة وهندسة الجسور والتخطيط المدني ارتفعت بنسبة قياسيّة بلغت 142% مقارنة بعام 2008. والزيادة تنسحب أيضاً إلى مجموعة الوظائف المتعلّقة بتدقيق حسابات، لكن بنسبة أقلّ بلغت 25%، فيما نسبة ارتفاع البحث عن الأعمال المتعلّقة بالإدارة العامة بلغت 20%.
وعند دمج جميع الإحداثيّات والمتغيّرات المتعلّقة بالتضخّم وتراجع أسعار العقارات والإيجارات وكلفة المعيشة يمكن رصد رابحين وخاسرين.
الرابحون عموماً هم من حيث نوعيّة الوظيفة «الذين يتقاضون راتباً ثابتاً»، وبحسب معيار المسكن، هم الذين يسكنون المدن التي شهدت وتشهد انخفاضاً حاداً وسريعاً في الإيجارات مثل دبي والدوحة. كذلك يُصنّف رابحاً أيضاً العامل الأجنبي الذي تضعف عملته الوطنيّة.
في المقابل، يمثّل الأفراد الذين يعتمدون على العمولات والمداخيل غير الثابتة (مثل مندوبي المبيعات) أكبر الخاسرين. وهولاء يتأثّرون أكثر إذا كانوا يسكنون في مدن متمتّعة بأسعار عقارات وإيجارات مرتفعة وثابتة نسبياً مثل أبو ظبي. والعمّال الأجانب الخاسرون من المنطلق النقدي هم إجمالاً الذين يأتون من البلدان ذات العملات الثابتة أمام الدولار.
وتتطرّق الورقة البحثيّة إلى أفق سوق العمل في منطقة الخليج وتقول في ما يتعلّق بخفض الوظائف إنّ هذه العمليّة استقرّت نسبياً بين الشركات الإقليميّة. أمّا خفوضات الوظائف الأكبر فستشهدها الشركات المتعدّدة الجنسيّات التي تخضع لعمليّات إعادة هيكلة. كذلك يمكن أن تتعاظم ظاهرة الضغوط الحكوميّة على الشركات لتوظيف العمّال الوطنيّين على حساب الأجانب.
أمّا على صعيد زيادات الراتب خلال الأشهر الـ12 المقبلة، فمن المتوقّع أن تكون عند الحدود الدنيا، فيما معدّل ادخار الموظّفين الأجانب سيبقى ثابتاً بسبب تراجع الضغوط التضخميّة، غير أنّ هذا الواقع خاضع للتغيّرات التي يمكن أن تطرأ على سعر صرف الدولار.
(الأخبار)