كمن يخرج من جلسة تعذيب، يخرج زائر مخيم نهر البارد من «البراكسات»، منهكاً وخائر القوى. من قال إن التعذيب جسدي فقط؟ كلّ ما تقع عليه عينا الزائر سيصفعه ويجعله يخجل مما يراه. في البارد فضيحة بكل ما للكلمة من معنى، فضيحة أخلاقية تدفع إلى رفض كلّ ما افترضناه بديهياً في حياة اللاجئين الفلسطينيين
مهى زراقط
« حياة أبي، كان يحكي لي كيف توسّع المخيم. قال لي إنهم كانوا يستيقظون ليلاً ويبعدون القصب الذي يسيّج المخيم، ثم يمحون بأيديهم آثار الحدود القديمة عن التراب».
التاريخ يعيد نفسه. والرواية التي ينقلها خالد عن والده، قام بها هو قبل خمسة أشهر ليحسّن ظروف حياة عائلته في منطقة البراكسات في مخيم البارد. القصب تحوّل إلى باطون، والخيمة تحوّلت إلى «براكس» حدوده جبل لا يستطيعون تجاوزه. وحدهم الفلسطينيون بقوا أنفسهم، يجاهدون لتحسين ظروف حياتهم في «المؤقت» الدائم المفروض عليهم.
هنا في البارد، الذي عاد إليه جزء كبير من أهله قبل عامين، قصة مخيّم جديد يولد يمكن تسميته «البراكسات»، التي تتوزّع على خمسة مجمعات في المخيم، ويقيم فيها نحو ألف عائلة. يعاني أفرادها معاناة أجدادهم. يحاولون تحسين ظروف الإقامة، توفير سبل العيش، وحتى إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية. من ينظر إلى النصف الممتلئ من الكوب فسيصف الأمر بمعجزة الشعب الفلسطيني، لكن الأعمى فقط من يستطيع أن يغضّ النظر عن النصف الفارغ منه.
خالد ربّ عائلة مؤلفة من تسعة أفراد، فيها ست فتيات. عندما عاد إلى مخيم البارد قبل عامين حصل من «الأونروا» على «براكسَيْن»، علماً بأنّ من حقه الحصول على ثلاثة كما يقول، لكنه وافق لأن العائلة التي أقامت في «البراكس» المواجه له كانت مؤلفة من أم وابنتها فقط. أما عندما انتقلت الأخيرة من المكان، قام هو بـ«احتلال» البراكس الفارغ. «أحتاج إليه لأن عددنا كبير، لكني أيضاً لن أوافق أن يعطوه لعائلة فيها شبان. أنا عندي ست بنات بالبيت». وللسبب نفسه، بنى خالد جداراً من الباطون في نهاية الممرّ الذي يفصل البراكسات بعضها عن بعض، كما «صبّ» مساحة صغيرة ملاصقة بالباطون، في محاولة للحدّ من وصول الأفاعي والحشرات إلى الغرف.
ما فعله خالد، بدأ يفعله عدد من سكان «براكسات الباطون». اسم المنطقة قبل الحرب كان بحنّين. تغيّر كما تغيّرت كلّ الأسماء هناك، فصارت تعرف بأسماء القطاعات أو الـ«برايمات» (a,b,c)... هذه ذاكرة جديدة للمخيم تولد. شارع المجلس، أو منطقة النهر، صار اسمه b. والسكة، صارت c. وشاطئ البحر يمتد على قطاعَي e وd. واللافت أن أبناء البارد حفظوا الأسماء الجديدة بسرعة، بخلاف ما هو متعارف عليه لدى إطلاق اسم جديد على مكان أو شارع. السبب يردّه نضال، دليلنا في المخيم، إلى المعاملات الرسمية التي باتت تتعامل مع المخيم وفق تقسيماته الجديدة التي رسمتها «الأونروا» تمهيداً لإعادة الإعمار... المنتظر.
ولأنه منتظر، تستمرّ «الأونروا» في بناء براكسات جديدة. على مسافة أمتار من براكسات الباطون يجري العمل على بناء براكسات من طابقين، تحلم قريبة خالد في الانتقال إليها، وتفتش منذ الآن عن واسطة تسمح لها باختيار أفضل الممكن بحيث تحسّن ظروف حياتها. هي فرد من عائلة مؤلفة من خمسة أفراد تضم سيدة سبعينية قُطعت رجلها بعد أشهر من العودة إلى مخيم البارد، بسبب لدغة من حشرة سامة، بالإضافة إلى أربعة أولاد (فتاتان وشابان). تعيش هذه العائلة في غرفة صغيرة، لا يتجاوز طولها ستة أمتار، وعرضها ثلاثة. يسمّيها أهل المخيم «براكس»، فيه حمام صغير وزاوية لوضع أدوات المطبخ.
الأثاث الموجود في الغرفة عبارة عن سرير للأم، و4 فرش إسفنج بالكاد تتسع لها الغرفة ليلاً لتتمدّد عليها أجساد المقيمين فيها، الذين ينامون ليلهم بلا كهرباء. سقف الغرفة من الزينكو، ومدخلها سُدّ بجدار من الباطون مثّل ممراً صغيراً وضعت فيه العائلة غازاً صغيراً تجنباً لرائحة الطهي في الغرفة.
هذا المشهد يولّد أسئلة لا تنتهي: كيف ينام خمسة أشخاص في هذه الغرفة، شتاءً وصيفاً؟ بل كيف يعيش شابان وفتاتان في غرفة واحدة، حتى لو كانوا إخوة؟ أين الخصوصية؟ أين الحق في المسكن الذي تنص عليه شرعات حقوق الإنسان؟ كيف تقدم الأمم المتحدة هذه «البراكسات» لأبناء البارد، وهي تعرف أنها لا تراعي معايير السكن اللائق؟
قد تبدو هذه الأسئلة سخيفة لعدم ارتباطها بالواقع الظالم ومعايير الكيل بمكيالين، التي نعرفها. لكنها بديهية إلى حد أنها تفرض نفسها، كما تفرض عودة إلى تاريخ النكبة، حين قدمت الأمم المتحدة خياماً للاجئين الذين طردتهم إسرائيل من بيوتهم قبل أكثر من ستين عاماً. فمنذ ذلك التاريخ، لم تتوقف مخيمات الفلسطينيين عن التوالد، نكبة بعد نكبة. ولم يتوقف الفلسطينيون عن اجتراح المعجزات ليستمروا في العيش بكرامة. لذلك، عندما يخبرنا أحد أبناء المخيم أن صديقه «استشهد بمرض عضال»، نجده محقاً. إذا انطلقنا من فكرة الاستشهاد، يصحّ القول إن كلّ من يعيش حياة مماثلة، يموت شهيداً.
ليس الاكتظاظ وحده ما يثير هذه الأسئلة، بل ظروف الحياة أيضاً. إذ تقع البراكسات في منطقة تكثر فيها الحشرات السامة، من أفاع، عقارب، جرذان وحتى كلاب شاردة. تقول سيدة كانت تنشر الغسيل إن مشاكل كثيرة وقعت بين السكان على خلفية فقدان أحذية من أمام البيوت تبيّن لاحقاً أن الكلاب كانت تحملها. أما جارتها المحاطة بثلاثة أطفال فكانت تشكو من تلوّث المياه. على الرغم من ذلك تجدها جمعتها في أوعية كبيرة لاستعمالها في الجلي بعد الإفطار. فالمياه لا تصل كافية إلى المكان، أما الكهرباء التي يوفرها مولّد خاص بالأونروا، فحصتهم منها خلال شهر رمضان 4 ساعات في النهار، ثم عند الإفطار ولغاية الساعة الواحدة فجراً. الحشرات تغزو أيضاً براكسات الحديد في القطاع c. هناك ولد أول البراكسات، ومن يراها، سيجد أن براكسات الباطون تعدّ جنة قياساً بها. هذه الغرف مصنوعة من الحديد، أما أرضيتها فمن خشب اهترأ بعد أكثر من عامين من الإقامة فيها، لذلك تقوم الاونروا حالياً بنزعه ووضع بلاط مكانه.
ولا تبدو الحال أفضل بالنسبة لمن أقاموا في كاراجات المباني، كما هي حال أم جهاد. نلتقيها عند مدخل منزلها، حاملة وعاءً بلاستيكياً وضعت فيه الفلفل الحار بعدما حضّرته مؤونة لفصل الشتاء. لا نحتاج إلى سؤالها عن حياتها الجديدة، فهي من تبادر إلى طرحه: «هيدي عيشة هاي؟ هيدا محسوب بيت؟». ندخل معها إلى غرفة مفروشة بحصيرة فقط، يفصل بينها وبين ما يسمى مطبخاً، جدار من الباطون بُني حديثاً. تدلّنا إلى الأدوات القديمة الموجودة فيه، وتقول: «كلّو شحاذة من العالم. الغسالة، الغاز، حتى أدوات المطبخ». نلتفت إلى اليسار، فنجد الحمام من دون باب. «صنعتُ له ستارة لكني أغسلها الآن». يقترب منها طفلاها، فتنهرهما: «مش كافيني اللي فيني، بعد إنتو بدكن تسمولي بدني؟».
لا تقول أم جهاد إن حياتها في المخيم القديم كانت أفضل بكثير لجهة الوضع الاقتصادي، لكن «على الأقل كان عندي بيت»، أو كما تقول سيدة مقيمة في البراكسات «على الأقل الواحد كان ساتر حالو هونيك».


أعلن المسؤول عن ملف مخيم نهر البارد مروان عبد العال لمراسل «الأخبار» عبد الكافي الصمد، خلال إحياء ذكرى استشهاد أبو علي مصطفى في مخيم البداوي أمس، أنه تبلّغ من الحكومة اللبنانية أن قرار مجلس الشورى متعلق بإيقاف الطمر في المناطق التي يوجد فيها آثار، أما الأماكن الأخرى فيمكن للاونروا العمل فيها. لكن الاخيرة ردت أن المشكلة متعلقة بتحديد الأماكن التي توجد فيها الآثار»