تحوّل من «بطل العروبة» و«مموّل الثورات» إلى مرشد إلى الأسلحة المحرمة دوليّاًوائل عبد الفتاح
عندما نفّذ معمر القذافي انقلابه قبل 40 عاماً، كان ضابطاً شاباً، قاد ثورة على الملك. ووضع مقعده بجوار زعماء التحرير وبناة الدول الحديثة. كان وقتها مزيجاً من البدوي المارق على القبيلة، والسياسي المنفلت من قواعد البروتوكولات. ظلت هذه الصفات موجودة طوال ٤٠ سنة. أوقف فيها توصيفاته عند اللحظة الاولى التي اعتلى فيها العقيد ثورة «الفاتح» من سبتمبر. ظل هو العقيد وقائد الثورة، رغم أنه صاحب رتبة أعلى عسكرياً. ولا ثورة في التاريخ تستمر ٤٠ سنة. للثورة دور في لحظة وعمر تتحول فيه إلى «مؤسسة» حكم. «العقيد» تحدى الزمن وصنع له وللثورة حضوراً سرمدياً لا ينتهي بمهمة ولا يتحدد بمناصب، فهو ليس رئيساً. ودولته لا تخضع للتوصيفات المتعارف عليها، هي ليست ملكية ولا جمهورية، هي «جماهيرية»، أي حكم الجماهير، كما جاءت أوصافه «التفصيلية» في الكتاب الاخضر. نظرية العقيد للطريق الثالث بعيداً عن الاشتراكية والرأسمالية. طريق تجمع في «النظرية العالمية الثالثة» من نثارات الرومانسية السياسية وخلطتها المدهشة من أفكار قومية وإنسانوية ومثالية.

قيل إن عدداً من المفكرين العرب المشهورين شاركوا في صياغة نظريته وتدبيجها
يتعالى العقيد فوق اليومي، لكنه غارق في اليومي عبر شبكة «اللجان الثورية» التي سلمها الحكم الفعلي باعتبارها أداة الثورة الدائمة. التعالي الذي يتيح للقذافي أن يدير ليبيا ولا يديرها في الوقت نفسه. نظريته في حكم الشعب لا حكم نواب الشعب تعني أنه الروح الكبيرة التي يتجسد فيها الشعب الليبي. تلك الروح التي تخجل من تسمية نفسها في منصب «الأمين العام لمؤتمر الشعب العام»، كما ظل سنوات بعد إعلان «الجماهيرية» سنة ١٩٧٧. حينها تخلى عن الصفة، بعدما اطمئن إلى أن حكم الشعب يكون كما رسمه في نظريته، التي قيل إن عدداً من المفكرين العرب المشهورين شاركوا في صياغتها وتدبيجها لتصبح شبهاً لوحي نبوة، لا نظرية سياسية.
انتقل من ابن روحي لعبد الناصر الذي ائتمنه على الأمة العربية وجعله أميناً للقومية العربية، إلى الصراع لوراثة «أبوة» العروبة. صراع شهد مواقع متعددة من القاهرة إلى بيروت مروراً بالجزائر وحتى جيبوتي وجزر القمر، إضافة إلى جولات من محاولة تصنيع قنبلة نووية عبر الخبرة الباكستانية.
متحمس دائماً القذافي في كل معاركه. يبدو نزقاً أحياناً وخارج بروتوكولات السياسة وأقرب إلى الغاوين أو الممسوسين بغرام بعيد. أداؤه برز بعد أيام من نجاح ثورته، عندما أعلن ميثاق طرابلس الوحدوي بين مصر والسودان وليبيا، وحتى إعلان الاتحاد العربي الأفريقي في أول أيام إعلان اليأس من استجابة العرب لهواه الوحدوي، وبينهما اتحاد الجمهوريات العربية بين ليبيا ومصر وسوريا سنة ١٩٧١، ثم الوحدة الاندماجية بين مصر وليبيا في ١٩٧٢ ثم المسيرة الوحدوية التي قادها من رأس أغادير إلى مصر تعبيراً عن إرادة الشعب العربي في تحقيق الوحدة العربية الاندماجية (تموز ١٩٧٣). وبعد أقل من عام بيان جربة لإقامة الجمهورية العربية الإسلامية بين ليبيا وتونس أيام بورقيبة (نيسان ١٩٧٤) ثم بيان حاسي مسعود الوحدوي بين ليبيا والجزائر (كانون الأول ١٩٧٥)، ثم بيان وجدة الوحدوي بين المغرب وليبيا وبيان مراكش لإقامة اتحاد المغرب العربي إلى جانب تكسير بوابات الحدود وإعلان مشاريع وحدة تقريباً في كل عام من الأعوام الأربعين للثورة.

يجلس العقيد في خيمته ليصنع زمنه الخاص، بينما بلاده تعاني من ثقل مهماته النبوية

رقم قياسي لم يدخل تاريخ السياسة، لكن صنع تاريخاً لليأس من العروبة ومن زعماء مفتونين بفكرة «المخلص» و«المنقذ»، ويخفون تحت ملابسهم البدوية والعسكرية. صورة هتلر بدون قوته التي تحدى بها العالم.
تصور القذافي أن بلاده عظمى لمجرد أنها تلقّت ضربة من سلاح الجو الأميركي. تخريجة سياسية جديدة تماماً لآخر سلالة الحكام المبعوثين من العناية لتحويل دولهم إلى «قوى عظمى» بالتوحد مع ذات الزعيم المتعالية المفارقة للزمن.
يجلس العقيد في خيمته ليصنع زمنه الخاص، بينما بلاده تعاني من ثقل مهماته النبوية على بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. العقيد في خيمته يضع نيشان ملك الملوك على صدره ويرتدي ملابس مثيرة. هي الموجة الأخيرة من أناقته التي بدت تقليدية مثل نجوم السينما وانتهت إلى مفارقة اللحظة والذوق الراهن.
وهي موجات توازت مع تحولاته السياسية من «مموّل» الثورات في كل مكان إلى مرشد إلى مخابئ الأسلحة المحرمة دولياً كعربون صداقة وإنهاء عداوة مع الغرب وأميركا. القذافي نوع وحده الآن. فريد بين الزعماء. حطم سنوات الخلود والقدرة على طحن كل المخالفين تحت أوتاد خيمته. فاكهة التجمعات السياسية. يثير الفكاهة. ويداعب وقار الحكام الآخرين بطرافة تجعله كمن يؤدي دوراً على منصة مفتوحة ودائمة.
له مزاج ممثل يتمتع بقدرات عى تحويل هذيانات العقل المغادر للواقع إلى ما يتصوره خطاب مهم. أصبح هو وحده مصدر جذب سياسي لليبيا بعدما أنهكت مغامرات العقيد السياسية عوائد آبار البترول.
الشاب النزق أصبح بعد ٤٠ سنة عجوزاً يمتلك جاذبية أمام الشاشات والميكروفونات، وربما نظرته الدائمة لأعلى ليست انتظاراً لوحي أو نبوءة، بل هي بحث عن كاميرا تتابع استعراضاته المثيرة كشخص خارج التاريخ.

السؤال يتردد منذ بضع سنوات في أزقة طرابلس وحواريها، لكن من دون أن يفهم أحد سر العلاقة المعقدة بين القذافي ونجله سيف الإسلام (الصورة)، الذي ترشحه التكهنات لوراثة أبيه وهو يدير مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية. القذافي الابن يردد تصريحات مفادها أن التغيير قادم ووشيك. لكنه لا يوضح كيف.