دمشق | على عكس النصيحة الاستثمارية القائلة بضرورة «توزيع البيض لتقليل المخاطر»، فإن الانتشار الجغرافي النسبي لمنشآت الدولة ومعاملها وتوزعها على مختلف محافظات البلاد، جعلها أكثر عرضة للنهب والسرقة والتخريب خلال سنوات الأزمة، وإن كان بعضها قد سلم بداية الأمر من المصادرة باسم «الثورة» و«دولة الخلافة»، فإنه لم يسلم من العصابات التي تشكلت تحت راية الفوضى، ووجدت في منشآت الدولة «غنيمة محرزة» يجب ألا تفوّتها.
وأكثر ما يغري في منشآت الدولة، إلى جانب خطوط الإنتاج والآلات ومولدات الكهرباء وخزانات الأموال، تأتي المستودعات والمخازن المليئة بالمواد الأولية وقطع التبديل والسلع النهائية المنتجة، التي قدرت قيمتها في أحيان كثيرة بعدة مليارات من الليرات. فبحسب التقديرات الأولية لخسائر وزارة الصناعة، والتي حصلت «الأخبار» على نسخة خاصة منها، فإن قيمة المواد الأولية التي تعرضت للسرقة أو التخريب في ثماني مؤسسات صناعية منذ بداية الأزمة ولغاية شهر أيار الماضي، بلغت نحو 52.6 مليار ليرة، منها 36.8 مليار ليرة في المؤسسة العامة للأقطان، 5.8 مليارات ليرة في المؤسسة العامة الهندسية، و3.8 مليارات ليرة في المؤسسة العامة الكيميائية.
وتضيف تلك التقديرات أن الأضرار التي لحقت بالسلع والمواد الصناعية المنتجة في المؤسسات الثماني قدرت قيمتها بأكثر من 25.9 مليار ليرة، منها 18.3 مليار ليرة في مؤسسة الأقطان، 3 مليارات ليرة في المؤسسة الهندسية، و1.1 مليار ليرة في المؤسسة الكيميائية. وبذلك تكون الخسارة الأقسى هي في محصول القطن الخام والمحلوج، إذ بلغت قيمة ما تعرض منه للسرقة والتخريب أكثر من 55 مليار ليرة، وهذا هو أيضاً حال محصول القمح الذي كانت صوامعه وأماكن تخزينه هدفاً للنهب والسرقة من قبل أطراف متعددة، أبرزها المجموعات والتنظيمات المسلحة على اختلاف مرجعياتها وشعاراتها، وعصابات اللصوص وأثرياء الحرب التي استباحت الممتلكات العامة والخاصة. وفي أحيان كثيرة كانت عمليات السرقة تجري بتسهيل وتواطؤ وتشجيع من بعض العاملين الموالين للمجموعات المسلحة من جهة، أو الطامحين إلى الظفر بمكاسب مادية من جهة ثانية. وهذا تواطؤ لا يستبعد حدوثه معاون وزير الصناعة السابق ومدير مشروع التحديث الصناعي، فؤاد اللحام، «فالفساد موجود قبل الأزمة، إذ كنا نسمع عن حرق مستودعات كاملة قبل اجراء عمليات الجرد أو الانتهاء منها وذلك بغية إخفاء السرقات. اليوم ونتيجة الأزمة أصبح الوضع أسهل لإخفاء هذا الأمر بسبب الفوضى العارمة من ناحية، وإمكانية تبريره بحجة الأعمال العسكرية والتدمير والتخريب من ناحية أخرى، إضافة إلى وجود سبب آخر يساعد على حدوث هذا الأمر، ويتمثل في تعاطف أو انتماء بعض العمال للمجموعات المسلحة».
ويضيف اللحام أن عمليات السرقة «لا تجري لقطعة غيار تحمل في كيس أو علبة كرتون صغيرة، إنما هي غالباً لمواد أولية ومنتجات جاهزة وخطوط انتاج وآلات، يحتاج فكها ونقلها الى تجهيزات وتسهيلات ليس من السهل تأمينها حتى تصل إلى هدفها المقصود. لذلك لا يمكن نفي وجود تواطؤ في بعض الحالات، وليس جميعها. مع الإشارة إلى أن هذه الحوادث لم تكن محصورة بالمنشآت العامة فقط، بل شملت أيضاً عدداً من المنشآت الخاصة».
لكن ذلك اتهام لم يوثق رسمياً إلى الآن، لا من جانب المؤسسات الرقابية المعنية بمتابعة أداء جهات القطاع العام، ولا قبل المؤسسة القضائية التي لم تشهد حتى اليوم تحريك دعاوى جزائية بحق أشخاص محددين. ووفق ما يؤكده مصدر في الجهاز المركزي للرقابة المالية فإن «حجم الأضرار الكبيرة التي تعرضت لها المنشآت والمؤسسات العامة خلال سنوات الأزمة، دفع بالجهاز إلى اقتراح تشكيل لجنة وزارية عليا تتولى مهمة العمل على حصر الأضرار وتحديد المسؤوليات، ليصار لاحقاً إلى اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة، سواء بتحريك الدعوى القضائية بحق جميع المتورطين أو بمنح براءة ذمة للعاملين المسؤولين عن تلك المؤسسات والمستودعات، والذين لا يتحملون أي مسؤولية فيما حدث». ويضيف المصدر أن «رئاسة الوزراء وافقت مبدئياً على تشكيل لجنة من عدة وزراء لدراسة ملف الأضرار، التي تعرضت لها السيارات العائدة لكل جهة حكومية على حدة، وتحديد المسؤوليات وتبرئة ذمم العاملين».

وضع مالي صعب

وفيما كانت المواد الأولية والسلع المنتجة المسروقة تهرب إلى خارج البلاد وتباع بأبخس الأثمان، كانت فرصة استعادة مؤسسات الدولة وشركاتها بعضاً من عافيتها ونشاطها الاقتصادي تتضاءل إلى درجة فقدان الأمل. وبحسب الدكتور اللحام فإن «أثر هذه الظاهرة على الوضع المالي للمؤسسات الصناعية العامة يتباين حسب حجم السرقة والأضرار، التي جرى تقديرها بنحو 366 مليار ليرة سورية كخسائر مباشرة وغير مباشرة، إضافة لتوقفها عن الإنتاج، لكن قيمة الخسائر الحقيقية، سواء كانت صغيرة أو كبيرة الحجم، هي أكبر بكثير مما هو معلن اذا ما جرى احتساب قيمة الآلات والتجهيزات الجديدة، التي سيجري شراؤها عوضاً عن المدمرة أو المسروقة في ظل ارتفاع سعر القطع الأجنبي. وسيكون أثر ذلك سلبياً ليس فقط على الوضع المالي لهذه المنشآت (الصعب أصلاً، حيث لم تعد تملك سوى الأرض والمباني المدمرة)، بل على الموازنة العامة للدولة التي ستمول عملية إعادة تأهيل وتشغيل هذه المنشآت، إضافة لقيامها بدفع رواتب العاملين الباقين فيها لحين تحسن الظروف وإعادة تأهيلها وتشغيلها مستقبلاً». ولذلك ينصح اللحام بضرورة «اجراء دراسة جدية لتحديد مدى الجدوى الاقتصادية من إعادة تشغيل هذه المنشآت وفق نشاطها السابق، أو تحولها لنشاط صناعي آخر يكون أكثر جدوى من نشاطها السابق».
وانطلاقاً من المثل الشعبي القائل «أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي»، جاء قرار الاتحاد العام لنقابات العمال، والقاضي بتشكيل كتائب عمالية مسلحة لحماية المنشآت العامة من عمليات التخريب والسرقة، ووفق ما يقوله رئيس الاتحاد جمال القادري لـ«الأخبار» فإن «الكتائب التي هي قيد التشكيل حالياً، ستتكون من العاملين الراغبين بالمساهمة في حماية مؤسسات الدولة ومصدر رزقهم، بمعنى أن الانتساب سيكون اختيارياً لمن يرغب ولن يكون إلزامياً»، مشيراً إلى أن استهداف مؤسسات الدولة «لم يوفر الحجر أو البشر، وبالطبع كل ما يمكن أن يدر مالاً على الإرهابيين».