عبد الحليم فضل اللهبعبارات موجزة، يفصح تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عن انحيازه، والعبارات هذه ترد في ثلاث صفحات من فصل المواطنة السياسية، أحد الفصول الستة لتقرير التنمية البشرية الوطني الصادر حديثاً.
وليس لنا أن نهوّن بالطبع من شأن فصول أخرى ذات أهمية، لكن من دون تجاهل خللين: التناقض بين السياق الاجتماعي والسياق السياسي للتقرير، وتبنّي رواية أحد أطراف الأزمة في لبنان، بل والاقتباس من يوميات التراشق الإعلامي اليومي.
لنوافق أولاً على أن تقاسم السلطة في لبنان لم يجر مجرى التوافق المألوف، فانطوى على إضعاف النطاق المركزي للسلطة. لكن الطوائف ليست وحدها السبب في إضعاف عصب الدولة وحرمانها من التماسك والاستقرار، فهناك أيضاً السياسات المتقلّبة والرهانات الخاطئة وارتفاع المنسوب الخارجي في عملية اتخاذ القرار. وقد خَطَر لكاتب فصل المواطنة السياسية، في معرض نقد التوافقية وفي تلاعب درامي مقصود، أن يجعل لكل طائفة اختصاصاً، فكان الإعمار للسنّة، والتحرير للشيعة، والسيادة للموارنة.
لم يقم هذا التصنيف لأدوار الطوائف الثلاث الكبرى على نقد شامل ومتأنّ لأوضاع المرحلة الماضية وأحوالها، بل أكد من دون تردد وجهة نظر أحد أفرقاء الأزمة من المسائل الثلاث، وباستثناء مسألة السيادة التي لم تعد ميّزة لأحد، ما يزال السؤال مطروحاً عن العلاقة بين المسألتين الأخريين، المقاومة والإعمار، منذ تزامن الأمران في أعقاب الحرب الأهلية.
ففي مرحلة إعادة الإعمار الأولى، غلبت عقيدة النمو وقامت رسالة قادة الاقتصاد الجدد على وعد السلام الإقليمي والسخاء الاستثماري والتمويلي المستند إلى إمارات النفط وممالكه، فشاع الحديث حينها عن المفاضلة بين هونغ كونغ وهانوي في رفض مبكر وسابق على التحرير للمقاومة. وحين ظهرت بوادر الإخفاق الإعماري دون أن يكون للقتال ضد الاحتلال يد في ذلك، انشغل واضعو السياسات بمحاولة الجمع بين هدفين متعارضين، تمويل كلفة الدين العام الباهظة وتحقيق معدلات أعلى من النمو والبناء. ولم يكن أمام أهل الإعمار في مرحلة تبدّلت فيها قواعد اللعبة إلا فضّ الاشتباك مع أهل المقاومة والتعامل بواقعية مع احتياجاتها، مع العلم بأن كلفتها الإجمالية لا تكاد تساوي خدمة الدين لبضعة أسابيع، كما لم تكبد الموازنة الحكومية نفقات تذكر. وعلى وقع تبدل الرياح الدولية والإقليمية عاد الانقسام في المرحلة التالية إلى أقصاه، فوضعت المقاومة في مقابل الاستقرار والرفاه، وقيل إن وصاية «المجتمع الدولي» هي الملاذ الوحيد لبلد بات يعتمد أكثر من أي وقت مضى على الأموال الآتية من الخارج.
تبنّى التقرير في مسألة المقاومة مقولات مناوئيها، فأعلن التناقض بينها وبين سلطة الدولة، ولم يكلف نفسه عناء مجادلة حجتها الرئيسية، وهي أن القدرة على الدفاع والردع شرط لتمام السيادة، وأن «المجتمع الدولي» لا يعنيه في شيء تمكين الدولة من احتكار العنف، بل أقصى غاياته جعل الجغرافيا المحيطة بـ«إسرائيل»، منطقة منزوعة السلاح، كما يلوح في السطور الخفية من القرارات الدولية.
وفي قضية المقاومة أيضاً، يوافق التقرير ـــــ ربما عن غير قصد ـــــ على منطق الآلة العسكرية الإسرائيلية. فالحرب الضارية ضد المدنيين اللبنانيين في تموز 2006، ما هي إلا ردة فعل (مشروعة؟) على فعل قتالي بدأته المقاومة، ثم يقتبس من قاموس قوى الموالاة اللبنانية، ليركز على العواقب المادية القصيرة المدى للحرب، لا على تداعياتها الاستراتيجية أو على دوافعها الغائرة في باطن نظرية الأمن القومي الإسرائيلي.
هذا التحليل يتضمن مفارقات خطيرة، فهو يمنح دولة الاحتلال، وحدها دون باقي دول المنطقة، الحق بالرد غير المتكافئ مع إخلاء مسؤوليتها عن النتائج، وهو يوافق على جعل الاقتصاد اللبناني رهينة لا تفتدى إلا بالتنازل عن شطر من السيادة، كما يعتمد فهماً خاطئاً للحرب والسياسة، فيعتبرهما شأناً من شؤون الاقتصاد فيما تتبع الدولة الحقيقية سبيلاً معاكساًً.
ويحسم كاتب الفصل السياسي بجملة واحدة نقاشاً لبنانياً طويلاً، فالمقاومة التي تصادر «دور الدولة في حماية البلاد منفردة لا تلحق الضرر بسلامة البشر والعمران فحسب، بل تؤدي إلى عواقب سياسية تتصل بوحدة البلاد» وكأنما خشي تبعات إفراطه، فانتقل إلى الهامش (من الصفحة) لينسب حزب الله و«جمهوره الضخم» إلى شبكة المصالح الإيرانية في الصراع الدائر على المنطقة. لكن أليست حرب تموز نتيجة للانقسام الداخلي لا سبباً له واستثماراً من العدو فيه لا رسملة له، وهي سابقة ولاحقة على تطورات المنطقة وأزماتها.
يتشدد التقرير في قضية المقاومة، ليتسامح مع سياسات الإعمار «وإنجازاتها الباهرة التي لم تنافس بأي حال سلطة الدولة»، ولا كان نصيبها من الهدر والتبذير والإسراف المؤسس للدين العام إلا اليسير، في مقابل ما كانت عليه الحال في الصناديق «والإنفاق على القوى العسكرية وفاتورة الاستشفاء، والتضخم التوظيفي..»، لكن تقويم سياسة إعادة الإعمار، على هذا النحو لا يخلو من تبسيط واستنساب، فثمن تلك السياسة لا يقاس بالكلفة المباشرة، ولا بتمجيد الزخارف المدينية المحدثة، بل هناك عناصر إضافية لا يمكن إسقاطها، مثل العبء الإنساني والبشري للإعمار، والضرر الذي ألحقه بالتوازنات الداخلية التي لا تستقيم المواطنة إلا باستقرارها، وعواقب إهمال قطاعات واعدة أصابتها السياسات الرسمية بضرر لا يعوض. أما أوجه الهدر الأخرى التي حملت لعملية الإعمار من دون حق، فليست سوى فرع من فروع هذه العملية، وثمن يتيح استئناف اقتصاد ما قبل الحرب بأقل معارضة ممكنة، ليظل اقتصاد أقليات متضامنة في ما بينها، فاقتضى الأمر إطفاء غضب المستبعدين والمتضررين بمياه المال العام بدل إرضائهم بمزيد من التنمية. ولعل إثقال ذمة المقاومة ثم إبراء ذمة السياسات، هو دعوة مستأنفة لاعتماد نموذج التسعينيات نفسه لكن بعد التخلص من معادلة المقاومة/ البناء التي سادت في حينه وفرضت نفسها فرضاً.
* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق