«عمرها ما كانت الزودة» هكذا يختم تجربة 16 عاماً من النضالمحمد وهبةفي عام 1981 بدأ أحمد الضناوي عمله في «حبيب بنك ليمتد» في قسم الحسابات الجارية. كان لديه من العمر 20 عاماً. لم يكن يعلم أنه سيمضي 28 سنة من عمره في وظيفته ويترقّى إلى رئيس للقسم ليُصرف بعدها تعسّفاً. صدمه الأمر، فهو كان يظن نفسه محصّناً بصفته مندوب نقابة موظّفي المصارف في مؤسسته، ويمارس هذا الدور منذ عام 1993 حين انتُخب لمجلس المندوبين في النقابة... ويقول إنه لم يطلب شيئاً لنفسه بل كان يفاوض إدارة المصرف لتطبّق زيادة غلاء المعيشة لكل الموظفين... و«عمرها ما كانت».
ما يفتّق جروحه، هو تخلّي زملائه في المصرف عنه. 17 شخصاً كان قد قادهم قبل سنوات إلى إضراب شلّ الفرع الوحيد للمصرف في لبنان لمدة 50 يوماً ثم حصلوا بعدها على كل مطالبهم وفوقها «حبّة مسك» بنسبة 50 في المئة. يومها اضطرت الإدارة المركزية إلى المصرف في باكستان أن تفاوضه فحصل على المطالب زائداً تغيير مدير الفرع. «كان السائد حينها أن الحريات النقابية محميّة في عقد العمل الجماعي»، يقول الضناوي.
اليوم تغيّرت الحال. الضناوي طُرد بسبب نشاطه النقابي، محامي المصرف أمين شمس قالها له بالفم الملآن: «لو أنّك لم تجلب اتحاد موظفي المصارف إلى هنا لتغيّر الوضع». قبل ذلك بقليل كان قد أبلغه بأن الإدارة «ارتأت اليوم أن توقفك عن العمل لأن زوجتك أيضاً تعمل في المصرف نفسه». غريب، بعد عشرين عاماً تذكرت إدارة «حبيب بنك» أن الضناوي تزوج في عام 1991 زميلة له في المصرف مضى على عملها هناك 9 سنوات. والأغرب أن عقد العمل الجماعي يمنع التعرّض لأيّ من الموظفين في المصرف نفسه بسبب صلة دم تجمعهم.
مدير الفرع في لبنان، الباكستاني، سيّد أقدس أحمد لم يكترث لما إذا كانت قراراته تخرق عقد العمل الجماعي. جمعية المصارف لم تهتم أيضاً. كلهم سمّموا الدم في عروق عائلة الضناوي، وأحدثوا سابقة تقوم على طرد أي مندوب نقابي يطالب بحقوق الموظّفين. الطرفان تأكّدا أن بإمكان أي رب عمل أن «ينتقم» من ممثل العمال لديه إذا لم يعجبه نشاطه النقابي، فالقوانين لا تحمي هؤلاء لأنها لا تطبّق. المادة 50 من قانون العمل تربط صرف النقابيين من العمل بمراجعة مجلس العمل التحكيمي. والمادة 37 من عقد العمل الجماعي تمنع التعرض لهم بأي عقوبة بسبب نشاطاتهم النقابية. على الرغم من هذا الأمر هدّده سيّد أقدس في اجتماع ترهيبي للموظفين المطالبين بزيادة 200 ألف ليرة تنفيذاً للمرسوم 500: «سترى من الآن فصاعداً الجانب الأسود من وجهي (my black face) وستدفع الثمن غالياً أنت والنقابة». لم تمضِ أيام حتى طُرد الضناوي. ربح أقدس أحمد في معركة من اختراعه تحت اسم «كسر عضم». بالنسبة إلى الضناوي كُسر عظمه فعلاً.
هذا «الوجه» الأسود لأقدس أحمد لا يشبه وجوه مديري الفرع السبعة الذي تعاقبوا على المصرف منذ 1981. بينهم أسد أنصاري الذي وجّه إليه دعوة على العشاء أخيراً على الرغم من أنه كان موقوفاً عن العمل «قيد التحقيق». لم يتسلّم خلاصة التحقيق الذي أجرته شركة «صيداني للمحاسبة»، فالملف كان خالياً من أي اتهامات بالتقصير الإداري يمكن أن توجّه إليه. الإدارة حاولت أن تركّب له ملفّاً يبرر طرده فلم تنجح. تبيّن أن الخطأ ناجم عن قصور في برنامج المعلوماتية الذي يحفظ حسابات العملاء.
لم يعد لدى الضناوي إلا ذكرياته في المصرف. في الاجتياح الإسرائيلي طُلب منه مع اثنين من زملائه أن يفتحوا المصرف في مبنى «الإتوال» لتيسير أمور الزبائن. ناموا في المصرف حتى أنهوا كل العمليات المصرفية المطلوبة منهم. تكرر الأمر في حرب تموز، الفرع الوحيد كان قد انتقل إلى «المشرّفية» والصاروخ غير المنفجر استقرّ في الشارع بالقرب منه. ترك أحمد عائلته وذهب ينفّذ أوامر إدارة المصرف بنقل أموال الخزنة وأجهزة الكومبيوتر وبعض التجهيزات إلى المنزل المخصص لمدير الفرع في الروشة. كان معه شخص مختص بالمعلوماتية، ومسؤولة العمليات في المصرف، فكان يقوم بأعمال المقاصة ويوميات الحسابات.
اليوم أحمد الضناوي رجل بيروتي على أبواب الخمسينيات معيل لولدين وأبوين. يدرك جيداً أنه لن يعود إلى الوراء، إلى ما قبل 28 عاماً. والأنكى أنه يعرف أن فرص توظيفه معدومة. «خسارة... خسارة... أنا في منتصف العمر لا يمكنني البدء من الأول». ماذا سيفعل في ما بقي له؟ السؤال برسم وزير العمل وكل من يدّعي تمثيل العمّال والدفاع عن الحق وحرية العمل النقابي.


تحقيق «غير موجود»

في 29 نيسان 2009، أنهى رئيس مصلحة العمل والعلاقات المهنية عبد الله رزوق تحقيقه في الشكوى العمالية التي تقدم بها أحمد الضناوي بوجه «حبيب بنك». وتبيّن له بحسب الوقائع التي أدلى بها الطرفان أن الضناوي «تعرض لمضايقات كثيرة وطلبات بالاستقالة وصرف من العمل فوراً ومن دون سابق إنذار»، وقد أفاد محامي المصرف أمين شمس بأن أنظمة المصرف «لم تعد تسمح بذلك».
ويذكر التحقيق أن الفقرة (و) من المادة 50 في قانون العمل تفرض على صاحب العمل إبلاغ وزارة العمل رغبته في إنهاء عقد العمل قبل شهر من تنفيذه، فضلاً عن التشاور مع الوزارة بهذا الأمر، «وهذا لم يحدث على الإطلاق»... علماً بأنه «لا أسباب موجبة تستدعي الصرف وخراب البيوت بمجرد رأي استنسابي غير مبني على أسباب واضحة ومقنعة».
وفي خلاصة التحقيق يظهر أنه «ليس هناك أخطاء أو انحرافات أو أعمال مخلّة بمصلحة المصرف تستوجب صرف الضناوي، والسبب الأساسي لصرفه مجرد كونه عضواً نقابياً ممثلاً للنقابة لدى المصرف، ولأنه طالب بزيادة غلاء المعيشة تطبيقاً للمرسوم 500/2009...
رغم هذه النتيجة التي أتت في الوقائع والقانون لمصلحة الضناوي، إلا أن تحقيقات وزارة العمل ليس لها أي مفاعيل، وكأنها غير موجودة.