قرم: العقلية الريعية شجّعت على تصدير أولادنا إلى الخارجالثقافة الريعية طاغية إلى حدود قمع أي محاولة لإنتاج ثقافة مختلفة. هذا ما حاول جورج قرم شرحه في ندوة لجنة حقوق المرأة اللبنانية أمس، إذ قدم عرضاً موجزاً لمفاصل الاقتصاد الريعي وأكلافه المادية والمعنوية والنفسية على المجتمع اللبناني... داعياً النساء إلى العمل من أجل التغيير بعدما أظهرت التجارب أن الرجال ليسوا أهلاً لقيادة هذه العمليةقال وزير المال السابق جورج قرم إن الإعلام الاقتصادي اللبناني يقوم، في معظم الأحيان، بحملات غسيل للأدمغة، وذلك عبر التركيز (حصراً) على أرباح المصارف وازدهار القطاع السكني الفخم وتزايُد عدد السيّاح العرب الأثرياء في لبنان، معتبراً أن هذه الحملات تزيد من صعوبة مناقشة السياسات الاقتصادية والتنموية المعمول بها في لبنان منذ الاستقلال، ولا سيما في العقديْن الأخيريْن، إذ إن الإطراء المتواصل من الجهات المحلية والإقليمية والدولية على سياسات الإعمار (وجهازه الأساسي المتجسِّد في مجلس الإنماء والإعمار) والسياسات المالية والنقدية (البنك المركزي وجمعية المصارف) جعل انتقاد هذه شبه مستحيل، بل إن التصدي للسياسات المذكورة بات يُعتبر نوعاً من السخافة وقلَّة الوطنية، وخاصةً أنّ هذه السياسات قد أثارت إعجاب العالم برمّته.
ورأى قرم أنّ من أهم الأسباب وراء غياب أي تأثير للأزمة العالمية على الاقتصاد اللبناني يكمن في استنكاف لبنان عن استغلال القدرات الإنتاجية المتعددة الكامنة فيه، وسيطرة العقلية الريْعية على كل السياسات الاقتصادية في البلاد... وأشار في لقاء حواري نظّمته أمس في قصر الأونيسكو لجنة حقوق المرأة اللبنانية تحت عنوان «اقتصاد لبنان الريْعي ومدى تأثُّره بالأزمة المالية العالمية: نحو انتقاله إلى اقتصاد إنتاجي»، إلى أن هذه العقلية تتجسَّد في تفكير اقتصادي مبسَّط يبحث عن نشاطات تدرّ الأرباح الكبيرة من دون جهد إنتاجي يُذْكَر، كاستغلال الطلب المتزايد على السكن بسبب معدلات نمو عالية للسكان (الريْع العقاري) أو كسب المواقع الاحتكارية الطابع في التجارة والمقاولات ونشاطات أخرى ذات قيمة مضافة متدنية... وقال إن السياسة الاقتصادية اللبنانية تهمل القطاعات الإنتاجية، ما أدّى إلى عدم استغلال كل موارد البلاد وإمكاناتها، وبالتالي إلى العجز عن تصدير السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية بكميات كبيرة... ما أدّى إلى حصر النشاط في القطاع العقاري الذي يستقطب الأثرياء اللبنانيين والعرب، وفي المطاعم والفنادق الفخمة، وفي تركُّز أرباح هائلة في القطاع المصرفي من خلال السياسات النقدية التي يطبّقها المصرف المركزي والتي تجلب على نحو متواصل الودائع من داخل لبنان وخارجه بسبب ارتفاع الفوائد، هذا بالإضافة إلى الأرباح الخيالية التي جناها القطاع وكبار المودعين فيه من خلال سوء إدارة المالية العامة والسياسة النقدية التي أدّت إلى ارتفاع المديونية العامة وبلوغها مستوىً خارقاً.
تحويلات المغتربين لا تعوّض أكلاف النظام التربوي اللبناني
ووصف قرم عدم استغلال قدرات لبنان الإنتاجية وميزاته التنافسية بأنه جريمة متواصلة توسِّع دائرة الفقر والتهميش وهجرة الكفاءات المتصاعدة، مركّزاً على نوعيْن من الكلفة المترتبة على هذه الجريمة، إذْ إنّ الكلفة الاجتماعية المعنوية والعائلية كبيرة جداً تتجسَّد بتفتُّت أفراد العائلة الواحدة وتشرذمهم عبر القارات وبقاء الأهل المسنّين في الوطن محرومين من وجود أولادهم وأحفادهم، وقد أصبحوا يتّكلون على تحويلات أبنائهم من الخارج لتأمين الحد الأدنى من سبُل العيش، وخاصةً عندما يدخلون في سن التقاعد أو الشيخوخة مع ما تجلب من متاعب صحية ونفسية... أما النوع الثاني فيتمثل بالكلفة المادية، إذ إنّ أكلاف الهجرة عالية جداً سواء على العائلات أو على الاقتصاد الإجمالي، مشيراً إلى أنّ الأهل يجاهدون من أجل جمع المال لتأمين مستوى تربوي لائق لأولادهم أو للبعض منهم، وتفقد كل من العائلة والاقتصاد الوطني مردود ذلك التحصيل العلمي الذي يستفيد منه اقتصاد البلدان المضيفة للمغتربين دون أن تكون هذه البلدان قد تحمّلت أكلاف التحصيل التربوي والعلمي، معتبراً أن تحويلات المغتربين لا تعوّض أكلاف النظام التربوي اللبناني وما أنفقه الأهل على أولادهم، وخاصةً إذا أتمَّ الأولاد مستواهم الجامعي في الولايات المتحدة أو أوروبا. كما أشار المحاضر إلى أنّ الاعتماد المفرط للاقتصاد اللبناني على تحويلات المغتربين لسد العجز الهائل الذي يتميّز به ميزانه التجاري مع الخارج قد أصبح جزءاً ممّا يمكن أن يُسمّى عقلية ريْعية، إذ إن أدمغة أولادنا تصبح مثل النفط أو أية مادة أولية نصدّرها إلى الخارج، ونعيش من ريْعها كما نعيش على الريْع العقاري منذ عقود أو على استغلال النفوذ داخل الدولة للكسب غير الشرعي أو للحصول على وظائف في الإدارات العامة. وقد بلغت هذه العقلية الريْعية حداً غير معقول عندما نسمع من يقول إنّ على لبنان أن يبيع المياه لإسرائيل كمورد ريْعي إضافي، وخاصةً في غياب استغلالنا لها استغلالاً إنتاجياً فعّالاً.
وخلص قرم إلى أن استغلال قدراتنا الإنتاجية، بالشكل المنطقي والرصين، يؤمّن زيادة كبيرة في مستويات المعيشة، وخاصةً للفئات الفقيرة والمحدودة الدخل، وأعطى أمثلة عن التربة الخصبة والموارد المائية والتنوّع البيولوجي الذي يشتهر به لبنان ولا يستفيد منه، بالإضافة إلى القدرات البشرية والمواهب العلمية والمهنية التي تُصدَّر إلى الخارج بدلاً من توطينها في بلدها بإطلاق نهضة إنتاجية وعلمية وتكنولوجية شاملة... وهذا ما قامت به دول مماثلة كقبرص ومالطا وتايوان وسنغافورة وإيرلندا، حيث متوسط مستوى الدخل الفردي يتراوح ما بين 15 و30 ألف دولار، بينما في لبنان، وبالرغم من كل ما أُنفِق على الإعمار وكل التصفيق للسياسات الإعمارية والنقدية والمالية والمصرفية، لا يتعدّى مستوى الدخل الفردي فيه 5 آلاف دولار، إذ إنّ القضاء على القدرات الإنتاجية والميزات التنافسية وأسر الاقتصاد اللبناني في القطاعات القليلة المذكورة سابقاً لا يمكن أن يؤدّي إلى متوسط مستوى معيشي أكبر مما هو عليه الآن.
وقال جورج قرم إنه على الرغم من أن إنجازات المرأة في حقل الأعمال الاقتصادية العائدة للقطاع الخاص في لبنان وسائر الدول العربية، فإنّ دورها كموجِّهة للسياسات الاقتصادية العامة لا يزال ضعيفاً، وكأنّ ترسيم السياسات التنموية وتطبيقها هما حكر على الرجال الذين يكوِّنون جيوشاً من الأكاديميين والإعلاميين المتخصصين في الاقتصاد، ونادراً ما نرى امرأة تشتهر في الفكر الاقتصادي وتوجِّهه بأعمالها الفكرية والعملية.
(الأخبار)


50 في المئة

أو نصف سكان لبنان يعيش على خط الفقر أو دونه كنتيجة للتركُّز الهائل في الثروات والمداخيل لدى قلّة قليلة، فضلاً عن أنّ المواطن لا يزال محروماً من توافر الماء والكهرباء على نحو متواصل ومن نظام نقل عمومي لائق ونظام صحي يحمي الجميع بأكلاف معقولة.


أزمة تهدد الوطن