شعر البعض بالدهشة (وربما بالغضب) من حضور بنيامين نتنياهو وشمعون بيريز احتفال السفارة المصرية بثورة تموز. الدهشة أضيفت إلى مشهد كبير عنوانه «العجز». ليس عن التغيير، ولكن عن التفكير في ما يحدث. الاحتفال أعاد أغنيات وأفلاماً إلى ذاكرة مرهقة، ودعا أرامل الثورة إلى احتساء كؤوس فارغة، وخصوصاً بعدما ألغت الحكومة مولد أمّ العواجز
وائل عبد الفتاح

شرعيّة الملل



هل تموز آخر الثورات؟
القاهرة هادئة لم تنشغل بأسئلة جذرية. حاولت بعض الصحف طرح السؤال بطريقة استفزازية. وصلت بها «الدستور» إلى حدّ أنها وضعت صورة مكبّرة لجمال عبد الناصر وضعت أسفلها وصف: زعيم الثورة. وفي مقابلها صورة جمال مبارك مع وصف: زعيم الثروة.
أسبوع هادئ بعد انتظارات متوترة وانشغالات بمستقبل قلق. بدت مصر نائمة على رمال الشواطئ أو مختفية في البيوت من حرّ تموز الشهير. الهدوء لم يعد يسبق العاصفة. لكنه «استراحة» من الدوران في دوّامة لا نهاية لها.
صحوة من غيبوبة إلى غيبوبة أخرى. ما الذي سيحدث: عودة الثورة أم انتصار الثروة؟ يريد النظام أن يقفز إلى منطقة أكثر ارتباطاً بالثروة وأهلها. هل سيتحالف جهاز البيروقراطية، الذي أيقظته ثورة الضباط الأحرار ذات تموز من عام 1953 من مناماته الطويلة، مع مليارديرات النظام؟
تحالف أم احتكار للسلطة والثروة معاً؟
هل جمال مبارك زعيم فعلاً للتحالف الذي يراه البعض «كارثة» محققة؟ ويراه آخرون «بداية الطريق لتفكك دولة الثورة؟»
الإعلامي اللبناني المعروف زاهي وهبي سأل سائق تاكسي: «لماذا تخلو شوارع القاهرة من الزحام اليوم؟» السائق رد بسرعة: «النهاردة إجازة. كل سنة وانت طيب حضرتك..». ثم قرر أن يشرح للضيف سبب الإجازة فقال له بثقة شديدة: «...النهاردة عيد تحرير سيناء».
الذين استمعوا إلى حكاية زاهي لم يكونوا كلهم من المصريين، ولهذا لم يفهموا سر الضحك العالي، إلا عندما عرفوا أن الإجازة كانت بسبب ثورة تموز. هؤلاء لم يقرأوا عناوين مقالات رؤساء تحرير صحف حكومية دارت كلها تقريباً حول فكرة واحدة وهي أن الرئيس مبارك هو الامتداد الطبيعي للثورة.
لم يخرج رئيس تحرير واحد ولا كاتب مهم، من حملة رسائل النظام إلى الشعب، عن هذه الفكرة. منهم من قال كلاماً مفخماً عن عروبة مبارك وحمايته لمبادئ ثورة الضباط. والكلام الأفخم عن أن نظام ثورة تموز لا يزال حياً يرزق، وأنه متجسّد بنظام حسني مبارك، الذي يعدّ حامي حماته.
هل هذا كلام مناسبات؟
عشاق الرومنسية السياسية على النقيض، أقاموا جنازتهم السنوية وذرفوا أنهار الدموع على أيام الثورة التي انتهت. وزاد من التهاب المشاعر عرض التلفزيون لأفلامه الموسمية من «ردّ قلبي» و«أنت من الأحرار يا علي» إلى «في بيتنا رجل» و«ناصر ٥٦» وقرار رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس وتحويلها إلى «شركة مساهمة مصرية».
أصحاب الدموع على الثورة يرون، على عكس حاملي رسائل النظام، أن الثورة ماتت وأن مبارك هو «الردة» على خط الثورة.
المسافة كبيرة جداً بين حياة الثورة في مقالات الصحافة الحكومية وموتها في صحافة أخرى تشعر بالأسى السياسي. وهي مسافة تجعل ثورة تموز مناسبة مثل بقية المناسبات بالنسبة إلى سائق التاكسي. وتجعلها أيضاً قابلة للاستخدام، وخصوصاً من قبل النظام الذي تشغله، ضمن ما تشغله، مسألة الشرعية.
النظام لديه منذ فترة طويلة أزمة شرعية. هل يعيش نظام مبارك بشرعية تموز؟ شرعية تموز عملياً تبخّرت. ولم يجد النظام شرعية جديدة.
حتى شرعية حرب تشرين الأول 1973، سرعان ما تدهورت، لأن النظام نفسه دمرها قبل أن تصبح حقيقة. واختصر نصر تشرين الأول في الضربة الجوية الأولى، وصاحبها (أي حسني مبارك). وبالطبع لا يمكن نظاماً أن يقيم شرعيته على الضربة أو أي عملية عسكرية كانت جزءاً من حرب كبيرة. وإلا لكان عبد العاطي، صائد الدبابات في حرب تشرين الأول، قد طالب بحكم مصر منذ زمن.
اخترع نظام مبارك شرعية عرفية. شرعية الاستمرار. أصبح استمرار الرئيس هو الشرعية الوحيدة. هو صاحب البلد. ويفرض وجوده بالقوة. ويمنح عطاياه لمن يريد. استمراره أقوى من كل شيء.
إنها «شرعية الملل». النظام اكتشف أن كل شيء يموت بالملل. في مصر كائن ضخم يهدم ما فعلته النملة في سنوات ويعيدها إلى نقطة الصفر.
عندما يُطالَب النظام بمزيد من الحرية والديموقراطية وتداول الانتخابات، يأتي الرد سريعاً: وهل تريدون أن يصل «الإخوان المسلمون» إلى السلطة ويلغوا الديموقراطية من أساسها؟
وعندما تطالب أرامل وثكالى ثورة تموز بالمزيد من الرعاية الاجتماعية للشرائح المطحونة من ماكينة التحولات الاقتصادية، فإن الرد الجاهز هو: لا بد أن تتخفّف الدولة من الأعباء التي أثقلتها بها الثورة.
وإذا أرادت الرأسمالية الوطنية مزيداً من حرية الحركة، بعيداً عن البيروقراطية الحكومية وفسادها الذي أصبح مشروعاً، الرد الصاروخي يأتي: لا تنسي البعد الاجتماعي الذي عاهدنا الشعب عليه منذ ٢٣ تموز.
الملل ينتصر في النهاية، والنظام يستمر.
التوريث أصبح كلمة طبيعية من طول تداولها، ومن عنف الجدل حولها. ولم يفكر أحد ما من المعارضة مجرد تفكير في أن يخرج من الدوامة ويصدق ما يقوله الرئيس والحزب الحاكم والنظام كله عن نفي التوريث. لم يفكر أحد في طرح السؤال من زاوية أخرى، وهي أنه من غير المقبول ترشيح جمال مبارك في عين حياة أبيه.
ما دام التوريث مرفوضاً فلا بد أن توضع قواعد جديدة.
للملل شرعية وسلطة تثبت عجز كل القوى الأخرى عن التغيير. تثبت أيضاً استسلامها لفخّ الموضوع الواحد، والمسار الضيق. هذا هو النجاح العظيم لنظام يفرض سلطانه بامتصاص كل الطاقة الفعالة في كل القضايا تحت شعار: «دعه يعترض... ودعنا نعمل».
إنه شعور مفرط بضعف كل الأطراف، وقدرة النظام على وضعها خارج الحلبة وإرهاقها بالصراخ الذي يتحول إلى نباح. ثم يضيق في دوائر مغلقة من استسلام لقوة الملل، لكن الملل قوة جبارة.
ويبدو أن الحل الوحيد أمام المعارضة هو رفع شعار: «نحن نتحدى الملل».

أمير الوطنيّة الجديدة



محمد أبو تريكة بات أمير الوطنية الجديدة. لم يعد هو صانع البهجة العمومية لجمهور النادي الأهلي والمنتخب المصري. ولا ساحر كرة القدم. لكنه صانع الصور النموذجية للمواطن الذي يرفض مغادرة بلاده

رفض محمد أبو تريكة أخيراً عرض احتراف في أحد أندية الخليج واستمر مع ناديه (الأهلي) بناءً على رغبة الجماهير و«علشان خاطر مصر». الجملة الأخيرة منقولة من حوارات مشهورة في مسلسلات وأفلام الجاسوسية. الجاسوس في هذه الأفلام يتحرك بفيض العواطف المشحونة من الأغاني الوطنية. لا يعتمد على موهبته في مهام خاصة ولكن على العشق والعاطفة. أبو تريكة موهوب. عابر من طبقته الاجتماعية الريفية الفقيرة إلى نجومية (سوبر ستار) في اللعبة الشعبية الأولى وفي «الأهلي» نادي البرجوازية المصرية بكل مراحلها. اخترق مؤسسة «الأهلي» الحصينة وأصبح هديتها ونموذجها في لاعب كامل الأوصاف، تلتقي عنده الموهبة مع الأخلاق المضبوطة على المقاس المحافظ. الجمهور الأحمر انتظر أبو تريكة سنوات طويلة. صنع منه تميمة حظّ وانتصار. ورغم أن اللاعب لم يظهر بعلامات تميز خارج حدود المستطيل الأخضر، إلا أنه أصبح «صورة النجاح»، تمتزج فيها الموهبة الفطرية وبركة التدين، وتتحقق فيها قفزات مالية من دون انقلابات واضحة في السلوك.
الثروة والشهرة والرضى العمومي عن نجم النجوم وضعته في مرمى الاستقطاب السياسي. أشيع كثيراً عن انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأخيراً تحوّل اعتذاره عن الاحتراف في الخليج إلى عمل وطني. هكذا وضعت الوطنية في نقيض مع الاحتراف، كما كانت الهجرة نوعاً من خيانة الأرض. الوطنية هنا ترتبط بعقلية ريفية لا تناسب عالمية كرة القدم أو تحولها إلى صناعة لا تعتمد على انتماء اللاعب إلى قميص نادي معين.
تراجع أبو تريكة «بناءً على طلب الجماهير»، كما روّجت بروباغندا وحدت بين النادي والوطن، وبين حسابات لاعب ووطنية تحولت إلى سلعة بحد ذاتها. فالملياردير نجيب ساويرس قرر أن يكافئ أبو تريكة على «وطنيته» بمنحه مليون جنيه. نشرت شركة ساويرس للهاتف المحمول صوره مع أبو تريكة في دعاية صحافية، لتفجّر حرباً مع شركة منافسة احتكرت أبو تريكة في دعايتها. حرب تجارية على أيقونة الوطنية الجديدة، ما اضطر أبو تريكة إلى الاعتذار وإعادة مكافأة ساويرس.
الحكاية تجسّد عشوائية تتلاقى عندها نقائض؛ وطنية فاشية تلعب على شعار مستمد من هتلر النازية ويضع مصر ومن يمثلها (نادي، حزب، جماعة، طائفة....) فوق الجميع، ومنافسة تجارية على سلعة (النجم)، ومزايدات بالوطنية وتصورات عن مؤامرات تستخدم فيها القيم الكبرى لترويج مصالح صغيرة.
هل اللاعب المحترف في الخارج أقل وطنية من لاعب الداخل وهل الخروج من مصر خيانة؟
أسئلة لم تدر ببال «نجم الوطنية الجديدة».

لعنة الدراويش



«الحكومة تعرف المصلحة وخايفة علينا». قال الرجل العجوز لابنه الغاضب. قالها بانكسار هذه المرة. وتركه بعدما قرر أن يفعلها هو. حمل عصاه وعبر الطريق ومال على صديقه وهمس في أذنيه. دب النشاط وانضمّ العجوزان إلى الموكب العشوائي الذي تحدّى قرار الحكومة وأقام مولد السيدة زينب القوة.
لم يوقف قرار الحكومة مريدي «أم العواجز». نجمهم الأول مداح الرسول ياسين التهامي اعتزل من الحزن، بعدما حرمه القرار من موعد خرافي يلتقي فيه بجمهور عاشق متيم يتراقص بإيقاعات الصوفية البعيدة عن الذوق العام.
مخيمات عشاق «الست» تحيط بالمسجد منذ أكثر من شهر، قبل قرار محافظ القاهرة بإلغاء المولد خوفاً من أنفلونزا الخنازير. لم تستطع الحكومة حسم القرار في ملف الحج والعمرة، لكن الحسم كان من نصيب مولد «رئيسة الدواوين»، كما يصفون السيدة زينب في أدبيات الصوفية وأشعارهم.
«العواجز» هددوا أصحاب القرار بلعنة «أمهم». وبالفعل في ليلتها الكبيرة نزلوا إلى الشوارع واحتفلوا بها. أجهزة الأمن غضّت طرفها عن الاحتفال الممنوع. سمحت بالتحدي المعلن لقرار الإلغاء. لكنها أجبرت الطرق الصوفية على تحويل المهرجان السنوي إلى احتفال داخلي، لتتحول الساحة الداخلية إلى كتلة بشرية تهتز برقص تطهيري عنيف يعيد المريدين إلى حالة سلام غريبة.
لعنة السيدة تخيف الحكومة، ليس على المستوى الخرافي فقط، ولكن على المستوي السياسي. أحد أعضاء مجلس الطرق الصوفيه أعلن أن الرد سيكون في صناديق الانتخابات. هم الحزب الأكبر (10 ملايين وأحياناً يقال 15 مليوناً). ورغم أنهم بعيدون عن السياسة، إلا أنه عرف أخيراً قيمة تلك الأصوات بعدما ناوشهم من بعيد رجال جمال مبارك. وقيل وقتها إنها محاولة تجنيد الصوفيين ليحسموا معركة الخلافة.
الغضب من أجل أم العواجز مختلف. إنه دفاع عن طقس تقطع من أجله رحلات طويلة وإيمان قوي برابطة مع شخصيات كبيرة من آل بيت النبي واجهت عمليات مطاردة وعذاب، حسب المرويات الإسلامية.
رحّالة الموالد لم يوقفوا رحلتهم رغم قرار إلغاء المولد. ومن المتوقع أن يحرك «الاحتجاج الصامت» القلق الدفين في أجهزة الأمن من الجماعات. الأجهزة تريد قطيعاً واحداً. ولا يزعجها أن يتعدد القطعان تحت رايات تعرف أصحابها. لكن عدم الامتثال للقرار هو رسالة رغم خفوت صوتها، إلا أنها قوية بأن دروايش السيدة لديهم ما يغضبون لأجله.
غضب الدروايش يتحول إلى أدعية على «المفتري» و«ابن الحرام»، لكنه على الأقل مقاومة صامتة أو اللجوء إلى قوة علوية والخروج من حالة السمت الطويل.