منذ تسعينيّات القرن الماضي، انتشرت موجة خصخصة الكهرباء في بلدان كثيرة. الموجة تخضع لمراجعات لتحديد المكاسب والجدوى، النتيجة: لا يوجد نمط مطلق، لذا لا يمكن إطلاق «الأحكام الكهربائيّة»
حسن شقراني
«التحوّل» في أعمال الدولة عبر الخصخصة بهدف إعادة هيكلتها وترشيقها، عمليّة شابت وتشوب نجاحها عقبات تجريبيّة ومبدئيّة كثيرة تحدّد من المنظورين الاستراتيجي (مستوى الجدوى المستقبليّة) والاجتماعي. ويمكن رصد الآثار المدمّرة من خلال تجربة «خصخصة» تحوّلت إلى «كارثة» في روسيا.
في لبنان، الخصخصة مسألة مثيرة تدغدغ السياسيّين والخبراء والأفراد العاديّين (بسبب بعدها الإيديولوجي!)، وهي تكتسب طابعاً خاصاً عندما يتعلّق الأمر بالكهرباء، القطاع المحروم تاريخياً وحاضراً من الاستثمارات العامّة، الذي يرى البعض أنّ خلاصه يكون برؤوس الأموال الخاصّة... لكن هل يدرك اللبنانيون أن الخصخصة ليست وصفة صالحة لكل أوجاع الرأس.
في تسعينيّات القرن الماضي اجتاحت رؤوس الأموال الخاصة البلدان النامية والعديد من البلدان المتقدّمة، وبلغ عدد المشاريع الكهربائيّة الخاصّة 600 مشروع، قُدرت قيمة استثماراتها بـ160 مليار دولار في 70 بلداً. وتنوّعت طبيعة تلك المشاريع بين «عقود الإدارة» و«تفكيك أصول الدولة» وخطط «البناء والتشغيل والاستملاك» (BOO) و«البناء والتشغيل والنقل» (BOT) و«البناء والتشغيل والاستملاك ثمّ النقل» (BOOT).
فماذا عن لبنان؟ هل يجب الحسم كلياً بأن لا يكون تطوير قطاع الكهرباء إلّا عبر إشراك القطاع الخاص؟ وماذا عن التجارب التي ذاقتها بلدان أخرى في هذا الإطار؟
الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد حايك يرى أن «لا نهضة للاقتصاد اللبناني من دون إشراك القطاع الخاص في قطاع الكهرباء». ويحدّد أهميّة الخصخصة بأنّها «تكمن في أنها أداة للإصلاح أكثر مما هي أداة لإطفاء الدين، وذلك من خلال تحسين الإدارة ونوعية الخدمة وخفض الفاتورة للمواطن».
في بلدان كثيرة حول العالم أثبتت خصخصة قطاع الكهرباء فائدتها، لكن في مقابل الفوائد المرصودة، هناك أمثلة تشير إلى صحّة العكس.
موجة خصخصة قطاع الكهرباء في العالم بدأت في تشيلي في عام 1973، ومن ثمّ وجدت أرضاً خصبة في بريطانيا في عام 1990. وهذا المثلان مثّلا نموذجاً لأواليّات إجراء عمليّة نقل ملكيّة وإدارة الكهرباء إلى القطاع الخاص.
في البرازيل بيع قطاع الكهرباء في عام 1995 لشبكة من المستثمرين الأجانب، بينهم الشركة الأميركيّة التي أعطت لاحقاً مثالاً للانهيار الناتج من الفساد «Enron»، والتي أنفقت وحدها 3 مليارات دولار لشراء بنى تحتيّة في البلد اللاتيني.
الخصخصة تمّت بحسب «النموذج البريطاني»، وبعد سنوات طويلة من التمتّع بنظام فعّال نسبياً وبتعرفات منخفضة، انهار النظام في عام 2001 وارتفعت الأسعار ارتفاعاً حاداً، فيما سعى المالكون إلى تدوير الأرباح عوضاً عن استثمارها في طاقة إنتاج جديدة.
ومن بين البلدان النامية أيضاً، شهدت الهند خيبة أمل في عمليّة خصخصة الكهرباء التي شهدتها في بداية تسعينيّات القرن الماضي، فقد وصلت التعرفة إلى مستوى اضطرّت عنده الحكومة إلى إعادة شراء القطاع.
وفي هذا السياق تركّز التقارير النقديّة لنهج الخصخصة على أنّه في معظم الحالات كانت الفكرة الأساسيّة زيادة مستوى التغذية الكهربائيّة وخفض الأسعار، لأنّ المنافسة تزدهر في القطاع الخاص. غير أنّه على الرغم من أنّ بلداناً نامية عدة شهدت انعكاساً مباشراً لخصخصة الكهرباء على مؤشّرات اجتماعيّة (مثل الأرجنتين، حيث كان الوضع أساساً مزرياً، فأيّ تغيير كان سيؤدّي حتماً إلى تحسّن الإمداد وتشغيل البرّادات!) وصلت الأحوال في النهاية إلى طريق مسدودة.
تحوّلت خصخصة الكهرباء إلى عتمة في الولاية الذهبيّة الأميركيّة، كاليفورنيا. فبعد 11 عاماً على الخصخصة تبيّن في عام 2003 أنّ إمداد الكهرباء محكوم بفشل ذريع وبارتفاع التعرفة وعجز تصل قيمته إلى 37 مليار دولار.
وفي ولايات أخرى مثل مونتانا، أظهرت عمليّات الخصخصة أنّ خصخصة قطاع الكهرباء تمثّل خطراً حقيقياً على الأمن الطاقوي لدافعي الضرائب.
التجارب المرّة سُجّلت في كندا أيضاً. ففي ألبرتا ارتفعت تعرفة الكهرباء 13 ضعفاً مع حلول بداية الألفيّة الثالثة، واضطرّت الحكومة إلى التدخّل لدعم المستهلكين عبر حسومات وصلت قيمتها إلى 2.3 مليار دولار، وفرض حدّ أعلى للأسعار.
وعتمة الجدوى الاقتصاديّة وصلت أيضاً إلى قطاع الكهرباء المخصخص في بريطانيا، حين تبيّن أنّه بعد 15 عاماً على الخصخصة، لم تحصل الحكومة إلا على نصف العائدات التي كانت تتوقّعها من القطاع. وأدّت التجربة إلى حصول المستثمرين الأوائل في القطاع على أرباح هائلة، فيما زاد الاعتماد كثيراً على الغاز الطبيعي ورفعت الحكومة مستوى إعاناتها.
وفي ساحل العاج أفضت خصخصة شركة الكهرباء الوطنيّة إلى أداء وجدوى أقلّ في ما يتعلّق بخفوضات الأسعار ومستوى الخدمة، وإن كان الإمداد بالتيّار يستمرّ بنمط 24 ساعة يومياً.
إذاً، فمن منطلق الجدوى الاقتصاديّة البحتة يتبيّن أنّه رغم رشاقة القطاع الخاص وحنكته وموضوعيّته في الإدارة، تظهر الأمثلة في البلدان النامية والمتقدّمة على حدّ سواء «ظلمات» يسبّبها الربح وغياب التوجيه. والأكثر إثارة هو أنّه يمكن الأموال العامّة أن تطوّر القطاع من دون رهنه لربحيّة رؤوس الأموال الخاصّة.
وعلى سبيل المثال يحلّ قطاع الكهرباء الفرنسي في المرتبة الثانية من حيث الحجم أوروبيّاً. والشركة التي تديره، «كهرباء فرنسا» (EdL)، مملوكة بالكامل للحكومة، وتقوم باستثمارات متعدّدة في بلدان عديدة مثل البرازيل والأرجنتين، وحتّى بريطانيا وألمانيا.
هل يمكن أن تتحوّل «كهرباء لبنان» إلى نموذج يشبه «كهرباء فرنسا»؟ نعم، إذا وُجدت النيات السياسيّة ـــــ الاقتصاديّة، وتُرجمت بعيداً عن «حتميّة» الخصخصة الكهربائيّة، التي قد تتحوّل إلى كوابيس، وخصوصاً في بلد مثل لبنان.


مراجع: مؤسّسة التمويل الدوليّة «هل حان الوقت لإعادة تقويم الخصخصة في الاقتصادات المتحوّلة؟». شارون بيديرز، «لصوص في الظلام». صحيفة «Toronto Times» عدد 18 أيلول 2003. ينفانغ زانغ، دايفيد باركر، وكولين كيركيباتريك، «المنافسة والقوننة وخصخصة الكهرباء».