محمد زبيبيؤدي فؤاد السنيورة دوراً رئيسياً في الإدارة المالية منذ أن أتى به الرئيس الراحل رفيق الحريري وعيّنه وكيلاً له بصفة وزير دولة للشؤون المالية في أولى حكوماته في تشرين الأول من عام 1992، واستمر في هذا الموقع حتى نهاية عام 1998، أي على مدى 6 سنوات متتالية، شهد اللبنانيون في خلالها أبشع الممارسات الضريبية لتغطية سياسات التبذير والإسراف والمحاصصات المدارة من سلطة الوصاية، أو كما وصفها الحريري نفسه، سياسات «شراء السلم الأهلي بالمال»... كان السنيورة «المحاسب الأفضل» في هذا المجال، وكان شاهداً على انهيار «وعد الربيع» وخيبة الرهانات على قيام «الشرق الأوسط الجديد»، فانتهت تجربته الأولى وقد بلغ الدين الحكومي (المصرَّح عنه رسمياً مع المتأخّرات التي احتسبتها حكومة الرئيس سليم الحص) أكثر من 20 مليار دولار بالمقارنة مع أقل من ملياري دولار في عام 1992، أي بزيادة 18 مليار دولار على أقل تقدير، وهي ترتّبت على اللبنانيين في تلك المرحلة من دون أي مقابل لهم، ولا سيما أن في عام 1998 انتهت عملياً ما سمّيت مرحلة الإعمار التي بلغت كلفتها أقل من 6 مليارات دولار!
غاب السنيورة عن حكومة الرئيس الحص بين عامي 1999 و 2000، وكان ملاحقاً في فضيحة محرقة برج حمّود قبل أن يعود في تشرين الأول من عام 2000 وزيراً أصيلاً للمال في حكومة الحريري أيضاً بعد انتخابات نيابية شديدة الالتباس، تسلّم ديناً عامّاً (مصرّحاً عنه رسمياً) بقيمة 24 مليار دولار، ولم يبارح موقعه في الوزارة إلا بعد 4 سنوات عجاف ذاق فيها اللبنانيون الأمرّين، وارتفع في خلالها الدين الحكومي الرسمي إلى 35.5 مليار دولار، بزيادة 11.5 مليار دولار.
الحمد لله، لقد نجحت في تحقيق أعلى نسبة نمو اقتصادي يشهده لبنان في تاريخه الحديث
ومرّة أخرى، غاب السنيورة، لكن لفترة وجيزة تقلّ عن 8 أشهر، ليعود بعدها رئيساً للحكومة اعتباراً من منتصف عام 2005، وهو اليوم يغادر موقعه نائباً عن الأمة بعد فوزه في انتخابات صيدا، وقد بلغ الدين الحكومي المصرّح عنه نحو 50 مليار دولار، أي بزيادة نحو 14 مليار دولار في 4 سنوات.
شهدت تجربته الأخيرة رئيساً للحكومة انهياراً شبه تام لقطاعات الكهرباء والمياه والاتصالات والنقل، ولم يُستَثمَر أي قرش في زيادة أصول الدولة أو تطوير البنى التحتية أو تنفيذ أي مشروع ذات منفعة عامّة... وبات نصف اللبنانيين على الأقل، بحسب المسوح الرسمية، يعانون ما يسمى فقر الدخل، وارتفعت وتيرة الهجرة لتطال أكثر من ثلث القوى العاملة اللبنانية، كذلك تدهورت أوضاع الفئات الاجتماعية الفقيرة والمناطق المهمّشة، وازدادت مظاهر الفساد في الدولة والاقتصاد.
والأهم من كل ذلك، سيسلّم السنيورة خلفه سعد الحريري قنبلة مالية واقتصاداً محبطاً ومجتمعاً منقسماً سياسياً وطائفياً وطبقياً ومؤسسات منهكة وسرايا للحكومة حوّلها إلى مصلّى يحمل طابعاً مذهبياً، فيما سيتسلّم منه تكتّلاً نيابياً يضم ربع نواب المجلس النيابي ليستكمل من هناك ممارسة شعائره وفنونه في إدارة الدولة والاقتصاد والإنفاق والجباية والاستهزاء بحقوق المهمّشين والضعفاء ومحاباة الملاّك وأصحاب الثروات والمشاريع الخاصة.
هذه وجهة نظر، إذ إن للسنيورة وجهة أخرى. فهو قال أمس في وداع العاملين في «القصر» الحكومي إنه كان مرتاحاً دائماً لما يقوم به، «ليس لأنه يحظى بتأييد مجموعة كبيرة من اللبنانيين، بل لأنه يعتقد جازماً بأن ما قام به حافظ على الجمهورية والنظام الديموقراطي واستقلال لبنان وسيادته وعروبته والدولة المدنية ومبدأ تداول السلطة ضمن الأصول الدستورية، وهو قام بكل ذلك انطلاقاً من إحساسه الكبير بأنه يحقق أيضاً مصلحة من كان يعتصم ضد حكومته، والذي كان يعطيه هذا القدر الكبير من الإحساس بالرضى والسكينة والهدوء هو أن العمل العام لا يمكن أن يحقق مبتغاه بالتشنج والتوتر والهياج والثوران، بل من خلال الهدوء والصبر والحكمة والحنكة والصلابة في التمسك بالمواقف... وهذا ما أوصله إلى هذه النتائج على مدى السنوات الأربع، التي تُوّجت بأن صوّت له الناس، ليس لفؤاد السنيورة، بل لما كان يمثّله خلال هذه الفترة الماضية».
يرى السنيورة أنه نجح نجاحاً باهراً «في مواجهة تحديات الحرب وتحديات الإرهاب والاعتصام وإعادة البناء والإعمار ونأى بالاقتصاد والمالية العامة والقطاع المصرفي عن تحديات الأزمة المالية العالمية... نجح، والحمد لله، في تحقيق أعلى نسبة نمو اقتصادي يشهده لبنان في تاريخه الحديث، على مدى 30 شهراً مستمراً. ونجح، على الرغم من كل التقلبات الحادة بحجم الزلازل، باحتواء معدلات التضخم في لبنان، ونجح أيضاً في الحفاظ على مستوى عيش اللبنانيين بأفضل الممكن»... كيف تحقق ذلك؟ يجيب السنيورة: «بالإيمان والإرادة، لأن لا شيء يستعصي على الإرادة عندما يكون هناك تصميم على بلوغ الهدف والمثابرة والعمل الجاد والابتعاد عن الهزل في الأمور الأساسية».
لم لا؟ قد يكون الحق مع السنيورة، والدليل على ذلك أنه سيكون رئيساً لأكبر تكتّل نيابي في مجلس نوّاب الأمّة، وليس هناك أحد من خصومه السياسيين لا ينظر إلى أوضاع لبنان النقدية والمالية والاقتصادية إلا باعتبارها صنيعة «معجزة» تستحق التصفيق، بل إنهم قد يتساءلون الآن في السر: كيف ستكون هناك حكومة لا يكون فيها فؤاد السنيورة؟