فلسطينيو سلوان في القدس المحتلة يعيشون في مهبّ التهويد والتهجير. لم يعد خوفهم من هدم بيتٍ هنا وآخر هناك، بل صار من هدم حيّ هنا وآخر هناك. 88 بيتاً و 1500 إنسان قد يجدون أنفسهم خارج المكان لبناء «حديقة وطنية»... أمّا الاستيطان، فقصة أخرى

القدس المحتلة- فراس خطيب
اكتظاظ هادئ يخفي من وراء الصمت معركة. أزقّة متشعبة، أطفال يسخّرون البؤس ليصبح لعبةً، وحرّ يُنهك حيوية المكان. إنّ من يقف إلى جانب المسجد الأقصى ويطلّ على بلدة سلوان، يراها مثل لوحةٍ رسمها فنانٌ متعبٌ، استوحاها من تاريخ الصراعات: بيوت راكمتها المراحل، متراصّة إلى حدّ اختفاء الفسحة، تنحدر من أعلى السفح لتنتهي في وادٍ، اسمه حي البستان. من يحدق أكثر، فقد يرى أعلاماً إسرائيلية على سطوح بضع البنايات؛ «تلك البيوت التي سقطت بأيدي المستوطنين»، يقول أحد السكان، وينهي الجملة بنظرةٍ إلى الفراغ، لتحكي ملامحه البقية: إنّ الحياة، مجرد الحياة في سلوان، معركة.
في ذلك المكان المنخفض، يعيش الناس في صلب الديار المقدسة، لكنَّهم منسيون على هامش الأسوار والتاريخ. هم أصل المكان والحكاية، لكنّ «المرشد السياحي» المتجول بين بيوتهم يحكي حكاية أخرى. صمودهم يأتي مع الصباح، حين يمضي أطفالهم إلى مدارسهم البعيدة ويعودون إلى أزقةٍ يملأها الغبار. فالبلدية، التي تنفق الملايين على مخططات الهدم، لا تجد وقتاً لإخلاء أكوام المهملات، ولا لربط البيوت بشبكة الصرف الصحي.
منذ احتلال القدس عام 1967، خطَّطت السلطات لمئات مشاريع الهدم في سلوان، لكنَّها لم تسمح ببناء حائط واحدٍ، ليصبح الناس البسطاء «خارجين عن القانون»، ويُشغَل معظمهم بالدوران بين البلدية والمحكمة، «فتحترق أيامنا من دون نتيجة. وبعد العناء، نرى أمر الهدم على مدخل الباب». لكنَّ منذ سنوات، المخططات تصاعدت، والحديث لا يقتصر على هدم بيتٍ هنا وآخر هناك، بل عن هدم حيّ هنا، وحيّ هناك.

88 بيتاً و 1500 إنسان قد يجدون أنفسهم خارج المكان لبناء «حديقة وطنية»
وجاء دور حي البستان، حيث لكل بيت قصة. منذ أعوام، يطلّ ساعي البريد على أهالي البستان لـ«يبشرهم» بعهدٍ جديدٍ من الدمار. ففي عام 2004، أصدر مهندس بلدية القدس أوامر بهدم 88 بيتاً بملكية مقدسية فلسطينية خالصة، متذرعاً بقانون «البناء غير المرخص» و«حارس أملاك الغائبين». يرمي المخطط إلى مسح البيوت وبناء «حديقة أثرية متصلة بمدينة الملك داوود»، الواقعة شمالي سلوان إلى جانب المسجد الأقصى. المخطط توقف في عام 2005، نتيجة الضغوط، وأتيحت الفرصة لأهالي الحيّ لطرح اقتراحاتهم على البلدية، وهذا ما حصل في عام 2008، لكن مهندس البلدية قال إنه لن يبحث مطلب السكان قريباً، معلناً استمرار السلطات بمشروع بناء «حديقة وطنية».
«يا بنيّ، قلي أنت، إذا كان الملك داوود تمشّى في حي البستان قبل آلاف السنوات، لماذا علي أن أدفع بيتي ثمناً لهذا؟»، يقول أحد المحترقين من حرارة الظهيرة في خيمة الاعتصام. يحمل مصبّ القهوة ويبتسم: «لا تقلق، لن يحققوا منالهم». لكن الأمل والصمود ينكسر أحياناً: «ثلاثة أوامر هدم، ماذا سأفعل إن هدموا بيتي؟ أين أذهب؟ انظر إلى أفقي ولا أرى سوى سواد مهيمن»، يقول أحد السكان.
البيوت في البستان صارت أرقاماً بفعل المخططات، من واحد إلى ثمانية وثمانين. أبو ناصر يسكن أحد «الأرقام». كان يتحدث في خيمة الاعتصام بحرقةٍ عن الحيّ في الماضي، عن أشجار التين ولعب الأطفال. حين يحكي عن نفسه أكثر، يبتسم ابتسامة مؤقتة، فبين أوامر الهدم والخرائط والأرقام المتناثرة على الطاولة، كانت هناك دعوات إلى عرس قريب، «هذا ابني ناصر، سيتزوج الأسبوع المقبل». حين تسأله عن التجهيزات لـ«العرس المهدّد» في أي لحظة يقول: «ناصر سيتزوج بإذن الله، وبيته سيظل عامراً. هؤلاء (الإسرائيليون) مجانين، فأنا وعائلتي نستفيق كل صباح ونطل على الأقصى، فصمودي أنا وأبنائي رباني، نحن مرابطون. عشنا هنا ونموت هنا، وعام 1948 انتهى قبل 60 عاماً».
القدس المحتلة تعيش واقعاً مأزوماً. صارت الحياة مؤامرة، الناس لا يثقون بالسلطات ولا بغيرها، يعيشون وفي قلوبهم نقمة: «وليس صدفة أن هبّة أهالي سلوان في الانتفاضة الأولى كانت مدوّية. الناس خرجوا إلى الشارع، لم يهمّهم الغاز ولا الرصاص» يقول أحد السكان.
حيّ البستان يجسّد حال المقدسيين العرب. إنّ من يحمل قاموس المخططات ويجول في أزقّة الحي، قد يرى الأمثلة حيّة أمامه: استيطان وتهويد وإهمال ونقمة. الناس هنا مشغولون في كل شيء. من هموم البيت حتى هموم القدس، وهي كثيرة.
من حيّ البستان، نغادر إلى خيمة اعتصام أخرى، في «عين حلوة». حيّ سلواني آخر تحت وطأة التهويد والاستيطان. حيّ نخرته الحفريات من كل صوب. في الطريق إلى هناك، وقف رجلٌ تجاوز الأربعين من عمره، بسيط إلى حد الحزن، بيته ليس مهدداً بالهدم، لكنَّه بحث عن مساحة للبوح، وقال بصوتٍ منخفض: «اكتب أنهم (الإسرائيليين) يجلبون العمّال الأجانب إلى الفنادق ويقطعون الرزق عنّا».


أبناء القدس يعيشون على هامشها

يعيش في سلوان ما يقارب 55 ألف فلسطيني، حالهم تراوح بين الصعب والأصعب. الأوضاع التي يعيشها أهالي سلوان تركتهم بعيداً عن الحياة الطبيعية. البطالة متفشية. لا حاجة للبحث عن معطيات في مكاتب العمل، تكفي مشاهدة الشبان الجالسين على أطراف الشوارع وسط الأسبوع لترى المعطيات حيّة.
75 في المئة من الأطفال يعيشون تحت خط الفقر. في البلدة تسع حضانات أطفال وسبع مدارس ابتدائية وإعدادية، لا مدرسة ثانوية أو كلية تذكر. جهاز التعليم يعاني فقراً في الشعب الدراسية، وانعدام التسهيلات. رواتب المدرسين منخفضة والمدارس في حال سيئة. يقول أحمد، أحد السكان، إن هناك «الكثيرين من طلاب سلوان تفوقوا في امتحان التوجيهي الأخير، لكنّ مستقبلهم سيئ. عندما يدرسون في الجامعة ويبعثون سيرهم الذاتية لأماكن العمل، سيرفضونهم من مجرد السؤال عن مكان الإقامة. ليس فقط لأنهم فلسطينيون، بل لأنهم أيضاً من سكان سلوان».
ضُمّ سلوان إلى إسرائيل بعد احتلال القدس الشرقية، يحمل أهله بطاقة هوية عبارة عن تصريح إقامة. فهم خاضعون لقوانين صارمة من الداخلية الإسرائيلية. يدفعون الضرائب للبلدية، لكنّ من يجول بين أزقتها يدرك أنّ المقابل معدوم. لم تزدهر البلدة مثل تاريخها الماضي، وبقيت عديمة التطوير وضحية السياسات، ما دفع شبّانها للبحث عن أرزاقهم خارجها، واستُغلوا على أنهم أيدي عاملة رخيصة. أبناء المدينة الفلسطينيون صاروا يعيشون على هامشها، فالقدس مدينة متعبة لسكانها الأصليين.

سرقة التاريخ وإعادة كتابة الذاكرة


الاستيطان متشعّب في سلوان. وصفة قوية للصراع، ودفيئة للانفجار. من يعتاد على العيش في حيّ عين حلوة، لا يستفزّه المشهد كما يستفز القادمين من بعيد. مستوطنون يتجوّلون بسلاحهم، وأماكن أثرية محكمة الإغلاق، علّقت على مداخلها كاميرات وعلم إسرائيلي، وعلى مقربة من المكان يوجد برج مراقبة وحارس وسائحون قادمون إلى «مدينة داوود».
يقول أحد سكان الحيّ «نحن نسمع الحفريات من تحت الأرض دائماً، وقد تعرّض 40 بيتاً لتشققات في الجدران، لكن البلدية لم تعترف بأن هذا نتيجة الحفريات»، ليروي آخر قصة «فنجان الشاي الذي يهتز على الطاولة فجأة».
يعيش في سلوان ما يقارب 300 مستوطن، استولوا على البيوت بمعونة من الدولة ومؤسساتها. في كل بيت يستولي عليه المستوطنون، يرفعون العلم الإسرائيلي. وقد استولت السلطات الإسرائيلية على بيوت كثيرة منها، قالت إنَّها من أموال الغائبين. كما بدأت موجة شراء البيوت من الفلسطينيين بطرق ملتوية.
ومع نهاية التسعينيات، نقلت الصلاحية على عدد من الأماكن الأثرية الكثيرة في سلوان إلى الجمعية الاستيطانية «ألعاد»، التي تعمل علناً على تهويد المكان. ورأى تقرير أصدرته جمعية «عير عميم» أن هذا النقل كان بمثابة «أداة ناجعة وذكية للسيطرة على الأراضي وإعادة كتابة الذاكرة للمنطقة». وقالت إن «الحفريات تنفّذ أحياناً من دون رقابة علمية ظاهرة، وهدفها إحياء الرواية اليهودية والإسرائيلية وسلب الرواية الفلسطينية».
إن جمعية «ألعاد» الاستيطانية، الناشطة أيضاً في شراء بيوت سلوان بطرق التفافية، هي المشرفة على مخطط «الحديقة الوطنية» التي ستأتي استمراراً لـ«مدينة داوود». ولا تقتصر مسؤولية الإشراف على متابعة طبيعة الحفريات، بل تشمل الطريقة التي يتم فيها عرض الاكتشافات. وخلافاً للأبحاث الأثرية التي تتم في المواقع الأثرية، يقول أحد سكان عين حلوة إنه «منذ بدأت ألعاد الإشراف على المشروع «تضاعفت عمليات الحفريات» وآلت الأوضاع إلى مرحلة لم يعهدها سكان عين حلوة.
السكان في سلوان ليسوا «رفضيين». ولا ينظرون إلى كل شيء على أنه «نظرية مؤامرة». فهم يعيشون في منطقة أثرية، غنية الحضارات. ويدركون أن البحث عن الآثار جزء من الحياة هناك، ولكن «شريطة أن يكون القصد علمياً». ويستذكرون أن البحث عن الآثار في السبعينيات كان مقبولاً ولـ«مصلحة البلد»، ليس كما هو اليوم: «حراسة ومراقبة وأسوار وأقفال».

ما قل ودل


السائح القادم إلى ما يسمى «مدينة الملك داوود»، يدخل من قلب عين حلوة، يبدأ زيارته من شارع مرصوف. دقيقة ثم يبتلعه النفق. يستمع السائح إلى أقوال المرشد، لكنه لا يشعر بأنه في سلوان أصلاً. هناك، في الأنفاق، لا أحد يتحدّث عن تاريخ سلوان العريق وحاضرها المنهك. لا أحد يحدّث السياح عن خمسة وخمسين ألفاً يعيشون فوق النفق. وكأنهم ليسوا موجودين. يقولون لهم «أنتم في مدينة الملك داوود التاريخية»، مختزلين تاريخ شعب أنهكته الأنفاق.

كان البيت جميلاً


كان بيت موسى العباسي يبدو جميلاً في سلوان. من ينظر إليه يدرك أن حجارته عرفت أمجاداً كبيرة. اعتاد العباسي قبل عشرين عاماً على استضافة مرشد سياحي، اسمه دافيد باري. كان باري يجلب السياح إلى بيت العباسي، ليشتروا منه الليمون ويطّلعوا على بيته. لم يخطر في بال العباسي، أن باري هو من مؤسسي جمعية «ألعاد» و«عينه على البيت».
كان باري، بحسب شهود يعرفون القصة، «يجمع معلومات عن بيت العباسي». استغل الوضعية، واعتلى «ثغرة قانونية»، حيث أعلن جزءاً من البيت «أملاك غائبين»، ورأى أن «مالك البيت الحقيقي لا يعيش في البلاد».
بموجب «قانون الغائبين»، صادرت السلطات الإسرائيليّة، ضمن صفقة جمعت السلطات و«ألعاد»، البيت «من دون تعويض»، كما ينص القانون الذي سنّ خصيصاً للاستيلاء على أملاك اللاجئين الذين غادروا أراضيهم قسراً.
في شباط عام 1991، دخل أفراد جمعية «ألعاد» إلى بيت العباسي، وطردوه من هناك واستوطنوا فيه. يعيش العباسي اليوم وشقيقه في جزءٍ صغير من المنزل. ويطلّان على ماضيهما بسخط وحسرة. مستوطنون يشاطرونهما بيت الأجداد، ليعيشا أقسى حالة اللجوء، «أن تشعر بأنك لاجئ في بيتك أيضاً».
الناس في سلوان ينتظرون فرجاً من السماء. ينظرون من أحيائهم ويرون أن المخططات الاستيطانية والتدميرية تسير سيراً مطّرداً ولا أحد قادر على إيقافها. لكنهم يؤكدون أنهم «متسلّحون بالإرادة». لكنَّ هناك مكاناً للحديث دائماً عما «فعله العرب للقدس وفلسطين». أحد الشبّان الغاضبين يقول «موسكوفيتش (رجل أعمال يهودي أميركي يستثمر أموالاً في القدس) يشتري بيوتاً ويعمّر أحياء استيطانية كاملة لليهود، ولا نرى أحداً من الدول العربية يدعم صمودنا».
كانوا يحكون بحرقة، فالواقع الذي يعيشونه يجعل من الكلمات جمراً، كيف لا والروايات المحكية تشبه القصص البوليسية أحياناً. استيلاء المستوطنين على البيوت يتم بطريقة لا يمكن تصورها. ولعل بيت العباسي خير مثال على الممارسة. في سلوان قصص كثيرة وحزن أكبر، ومخططات التهويد ماضية لإلغاء الوجود الفلسطيني في القدس المحتلة. ولعل ما قاله أحد السكان يختصر واقع المواجهة بكل تفاصيلها: «القصة ليست بيتاً بيع لليهود أو هدم منزل أو الاستيلاء على آخر فقط، لكنها حقيقة أن هذه قضية أناس لا يملكون سوى الإرادة. نحن نقف بوجه مؤسسة حاكمة وضخمة».