خصخصة الكهرباء ليست الخيار الاقتصادي الأمثل، وهي حتماً ليست خياراً اجتماعياً، فالفشل هنا تكون له آثار بالغة لا تُمحى، والمعايير المطلوبة تصبح دقيقة أكثر... ويبقى السؤال الأساس، لماذا اللجوء إلى القطاع الخاص ما دامت الدولة قادرة على تأمين «24/24 ساعة كهرباء»؟
حسن شقراني
إضافةً إلى الأسباب العلميّة القائلة بأنّ نقل قطاع الكهرباء إلى القطاع الخاص ليس عمليّة ناجحة حتماً وفقاً للتجارب المسجّلة حول العالم، هناك خصوصيّة لهذا القطاع الطاقوي في لبنان، فسيطرة رأس المال الخاص عليه لها تداعيات سلبيّة اجتماعياً، كما أنّ جدواها ليست بحسب الاعتقاد السائد.
تجارب كثيرة حول العالم توضح أنّ خصخصة قطاع الكهرباء لا تؤدّي دائماً إلى تحسين أدائه وجعله مربحاً. البرازيل وولايات أميركيّة وكنديّة وبلدان في أفريقيا اكتشفت أنّ العمليّة مكلفة اقتصادياً واجتماعياً.
في لبنان قطاع الكهرباء لم يذق نكهة الاستثمار العام طيلة عقد من الزمن، بسبب ضعف سياسات التوجيه. والآن مع ضعف الإنتاج مقارنةً بالطلب المتزايد تزداد الحاجة بقوّة إلى استثمارات تعوّض النقص الحاصل، الذي يزداد باطّراد.
وفي دراسته التفصيليّة عن وضع الكهرباء في لبنان (انتهى من إعدادها في كانون الأوّل عام 2008) يقول البنك الدولي إنّ حاجة لبنان من الكهرباء سترتفع بنسبة 60 في المئة بحلول عام 2015 لتبلغ 20598450 ميغاوات ساعة، ما يعني زيادة الطاقة الإنتاجيّة بواقع 1500 ميغاوات ساعة. أي ما يعادل استثمارات قيمتها مليار دولار، وفقاً للدراسة نفسها.
غير أنّ تحديد مصدر تلك الأموال لا يزال يطرح تساؤلات عدة، هل تُرصد اعتمادات لها من الموازنة العامّة، أم «يُشرّك القطاع الخاص»؟
شبكة مصالح تجعلك تتساءل: هل هناك مصلحة في انتظام القطاع؟
يمكن التسليم في هذا السياق بأنّ الجدوى العامّة تُحدّد فقط إذا جرت ملاقاة الجدوى الاجتماعيّة، على اعتبار أنّ ما يحتاج إليه قطاع الكهرباء في لبنان معروف (الاستثمار في تطوير القدرة الإنتاجيّة). فتلك الاستثمارات يمكن أن ينفّذها القطاع العام أو القطاع الخاص أو مزيج من الاثنين. ويتّضح أنّ إدارة القطاع برأس المال الخاص ليست دائماً عمليّة ناجحة. فالتداعيات الاجتماعيّة قد تتحوّل وخيمة نظراً للطابع الاستراتيجي التي تتمتّع به الكهرباء. تداعيات لُحظت في بلدان أخرى حول العالم خصخصت قطاعها الكهربائي. ففي أستراليا على سبيل المثال تراجع عدد الوظائف في قطاع الكهرباء بنسبة تفوق 60 في المئة إلى 33 ألف عامل. الشركات العملاقة التي سيطرت على قطاع الكهرباء في البلدان التي لجأت إلى إعادة الهيكلة نحو الخصخصة هي مؤسّسات يحكم عملَها أساساً مبدأُ تعظيم الربح لا طبعاً الرعاية الاجتماعيّة. واللافت هو أنّ تلك الشركات لا تنفكّ تقلّص دائرتها وتلجأ إلى عمليّات الاندماج والاستحواذ ما يركّز «القدرة الكهربائيّة» في يد مجموعة محدّدة غير مرنة في مسائل الرعاية الاجتماعيّة وغير مراعية للمعايير البيئيّة.
بأيّ شروط ستجري خصخصة قطاع الكهرباء في لبنان؟
يتساءل رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان في حديث لـ«الأخبار» عن التداعيات الاجتماعيّة للعمليّة المثيرة للجدل. يقول: «وضع مؤسسةكهرباء لبنان مزرٍ ما يؤدّي إلى بيع القطاع بأبخس الأثمان».
وهنا تكمن عقدة أساسيّة يزداد تجاهل مفاعيلها. فالبنك الدولي يشير في دراسته المذكورة إلى أنّ تطوير القدرة الإنتاجيّة عبر استثمارات القطاع العام يؤدّي إلى كلفة تبلغ 6.58 سنتات للكيلووات ساعة، فيما ترتفع تلك الكلفة إلى 8.19 سنتات عبر استثمارات القطاع الخاص... فإذا لجأ القطاع العام إلى الاستثمار حالياً، ولم يخصخص، سيوفّر على الشعب أعباءً مستقبليّة لها تبعات اجتماعيّة كبيرة.
تلك الأعباء حتميّة نظراً إلى أنّ «الطرف المشتري بمجرّد أن يُمسك القرار سيُترجم كلّ تصرّفاته بمعيار الربح والخسارة»، وفقاً لحمدان. وإذا جرى بالفعل تكريس نهج الخصخصة في الكهرباء «يصل الباحث إلى حدّ التساؤل: هل استمرار نزف الكهرباء هو شرط لاستمرار النسق السائد للأرباح والخسائر؟».
وعن «الخصوصيّة اللبنانيّة» في ما يتعلّق بالجباية ومستوى السرقة المتوزّعة في جميع المناطق اللبنانيّة، يلفت حمدان إلى الدراسة التي أعدّها مركزه، التي تفيد خلاصتها الأساسيّة أنّ الناس من كل الفئات، بمن فيهم الفقراء ومتوسّطو الدخل «مستعدّون للدفع في مقابل ضمانات حقيقيّة بحصولهم على الكهرباء». وعموماً فإنّ أيّ هيكلة للقطاع إن كانت على صعيد الإنتاج أو التوزيع «يجب أن تراعي التشطير بحسب الاستهلاك الشهري أو بحسب المناطق» بسبب «الخصوصيّة» نفسها، ومن المعروف أنّ تلك الاعتبارات لا يستطيع القطاع الخاص أن يحترمها، وأن يرتّب حساباته وفقاً للمعايير الاجتماعيّة.
حسابات القطاع العام يُفترض أن تكون في المبدأ اجتماعيّة ـــــ استراتيجيّة وطبعاً لا تهمل الجدوى الاقتصاديّة التي يقول وزير الطاقة آلان طابوريان إنّه يستطيع تأمينها عبر «خطّة متكاملة» لزيادة الإنتاج. ولكن في لبنان هناك تعقيدات أخرى تجعل الصوت يعلو في كثير من الأحيان من أجل إشراك القطاع الخاص على الرغم من أنّ العائدات الاقتصاديّة مشكوك فيها، فيما جدواها الاجتماعيّة غير موجودة أبداً (على أساس نسبي، أي مقارنةً بوضع الأساس قبل الخصخصة).
وفي هذا الصدد يشدّد كمال حمدان على صعوبة خرق الوضع القائم الذي يراعي مصالح كثيرة بين الشركات المستوردة للنفط والمتعاقدين والمشغّلين، «شبكة مصالح تجعل من الطبيعي طرح سؤال: إلى أيّ حدّ تجد تلك الفئات مصلحة في انتظام القطاع؟ فوراء كلّ فئة مجموعة تحميها». هذا هو تحديداً «التلهّي وراء الأزمة»، حيث يبقى القطاع غارقاً في هوّة الإهمال التاريخي لتنشأ الاجتهادات المختلفة لـ«إنقاذه» بينما عمليّة تشغيله منطقياً (اقتصادياً واجتماعياً) واضحة، وتتحدّث عنها الدراسات والأبحاث والتقارير المختلفة. واقع يؤدّي إلى خسارة تبلغ 400 مليون دولار سنوياً، هي عبارة عن مبيعات غير محقّقة في الصناعات المختلفة، إضافةً إلى لجوء المواطنين إلى زيادة إنفاقهم على الكهرباء بما نسبته 25 في المئة شهرياً.
الخصخصة إذاً ليست عمليّة حتميّة وشرطاً لتحوّل لبنان إلى «24/24 ساعة كهرباء». وهي لم تكن يوماً كذلك في العالم من الخليج العربي حتّى أميركا، ومن أميركا حتّى آسيا الوسطى. بل على العكس، أبرز النتائج المحقّقة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، تجري في إدارة القطاع العام.


مراجع: البنك الدولي، «دراسة النفقات العامّة في قطاع الكهرباء في لبنان». بول جوسكو، «إعادة هيكلة قطاع الكهرباء والمنافسة: دروس مستقاة». مؤسّسة التمويل الدوليّة، «هل حان الوقت لإعادة تقويم تجارب الخصخصة في الاقتصادات المتحوّلة؟».