خنقٌ للعراقيين بداعي مطاردة سيّارات الموت... بلا نتيجةبغداد ــ زيد الزبيدي
يتندّر ركاب حافلة صغيرة عند سماعهم تصريحاً لمسؤول يتحدث عن رفع حواجز إسمنتية من شوارع بغداد، وهم يتصببون عرقاً أمام نقطة تفتيش جديدة، معززة بحواجز استُحدثت أمام مدخل شارع السعدون. أحدهم من الظرفاء، علّق على الموضوع مستعيناً بمثل مصري مشهور «اسمع كلامك أصدقك... أشوف أمورك استعجب»، وهو يرمي ببصره صوب أحد عناصر نقطة التفتيش، الذي اختصر شارعاً من أربعة ممرات، إلى ممر واحد، تاركاً عشرات السيارات تنتظر دورها للمرور.
ورصدت وكالة «نينا» للأنباء بعض معاناة المواطنين من جراء الازدحام المروري الذي يضرب بغداد، وكذلك تصهر شمسها اللاهبة أجساد المواطنين الذين يضطرون للخروج من منازلهم ليلاقوا معاناة أشد وطأة من الانقطاع المزمن للكهرباء.
«شهداء» المأساة اليومية على الطرقات كثر. بعضهم كانوا يستقلون سيارة «كيا» في طريق الكرادة وفقدوا الأمل بالقدرة على عبور مدخل تمثال كهرمانة الساعة الثالثة ظهراً، واصفين الوضع بأنه «تعطيل غير مبرّر لمصالح آلاف البشر والموظفين وعامة الناس». ويقول أحد المارة إنه لم يسمع يوماً أنّ «أيّاً من نقاط التفتيش اكتشفت سيارة مفخخة»، إذ إن هذه السيارات القاتلة تعبر في أوقات وطرقات ليست فيها أي وسيلة للمراقبة.
ويعتقد معلّة رحيم الكرادي (سائق حافلة) أن «نقاط التفتيش هذه غير نافعة، فهي تعرقل أعمال الناس، وتسبب متاعب ومنغصات يومية لا حصر لها». ويؤكد وجود عدد من المشرفين على الحواجز يتحدثون ويقهقهون مع بعض أصحاب السيارات، تاركين الآخرين ينصهرون بحرارة الشمس في عزّ الظهيرة، إذ إنّ «السيارة نفسها لا تقاوم في هذا الحر، فكيف بالبشر؟».
بدوره، فإنّ أبو كوثر يسكن في حي الإعلام جنوب العاصمة بغداد، لكنه يعاني من المصيبة اليومية المتمثلة بأن المسافة الفاصلة بين حيّه ومنطقة الشورجة حيث يعرض «بسطته» لبيع الملابس تقطعها السيارة بأربع ساعات، «فهل يُعقل أن أعمل ساعتين ثم أعود الساعة الثانية ظهراً؟».
لكن وجهة نظر مختلفة تطل من بين التشاؤم والقرف العام المتولد من أزمة فوضى الشوارع والهاجس الأمني الذي تتذرع به الحكومة لتخنق الناس في الشوارع. فيرى محسن علي أن «الحر لا يهم، ولا الزحام، ولا التأخير، الحمد لله على الأمن الذي بدأ يتسرب إلى الشوارع والأزقة والبيوت، والأهم أنه بدأ يتسرب إلى نفوسنا».
إلّا أن لعبير، وهي مدرسة في إحدى ثانويات العاصمة، رأياً آخر، فهي تعتقد أنّ المشكلة الرئيسية «تكمن في الحواجز الإسمنتية التي تملأ الطرقات، وهي التي تحدث الفوضى والازدحامات». وتتساءل عبير: «إذا كانت هذه الإجراءات للحد من السيارات المفخخة، فكيف تدخل تلك السيارات إذاً؟»، لافتة إلى أن هذه المعرقلات تجعل المواطن يعاني المزيد من التعب الذي يضاف إلى سوء الخدمات.
حكايات مريرة تلك التي يرويها عشرات الأشخاص يومياً عن رحلة التعب والمعاناة التي يواجهونها منذ أكثر من 6 سنوات، عند مداخل الجسور وتقاطعات الطرق، وهي حقاً تستحق إجراءات سريعة من المعنيين. ليس هذا فحسب، بل أصبحت شوارع بغداد، بسبب إغلاق الطرقات، نموذجاً لشوارع القرون الوسطى، بل أسوأ، حيث فقدت معالمها الجميلة، وأصبحت أماكن لمكبات النفايات وعربات الباعة الجوالين التي تنتشر بفوضوية. ظاهرة يلاحظها المواطنون، وخصوصاً في شارع الرشيد، أهم وأجمل شوارع بغداد سابقاً، الذي أغلق نصفه منذ الاحتلال.
وبحسب المواطن سامر البغدادي، فإن العاصمة العراقية، بعدما ودّعت زمنها الجميل وتلاشت صورتها المشرقة وخصوصاً بعد الغزو، تحول شارعها الرشيد إلى «ساحة أشباح»، تحديداً قبيل المغرب، وهو الذي كان يضج بالحياة والحركة والأضواء طوال الليل.
ويدرك العراقيون كيف باتت روائح زيوت السيارات تحل محل عطور الحسناوات، وأصوات المولدات الكهربائية وضجيجها بدلاً من وقع أقدام الصبايا، ودوي الهاونات والعبوات الناسفة بدلاً من همسات الليالي الغافية على ضفاف نهر دجلة، لتضيع ملامح «الرشيد» التي ارتبطت بذاكرة البغداديين.
وبدت علامات الإرهاق والتآكل واضحة على شارع «الرشيد»، كأن الزمن توقف بالنسبة إليه، فغابت عنه أماكن اللهو والترفيه من دور سينما ومسارح ومقاهي كانت تعج بالزبائن من مختلف الأعمار والأهواء، يوم كان البغداديون يتحسّسون كل صباح العبق الخالد لهذا الشارع، ويتنفسون كل يوم رائحة بغداد المحفورة على جدران بناياته التراثية.
وكما هي الحال في كل أحياء بغداد، ابتلي الشارع التاريخي بالحواجز الإسمنتية التي قطعت أوصاله وشلّت حركة المركبات، بعدما كانت الحياة تدبّ فيه حتى الصباح.
هذه هي حال شوارع بغداد اليوم؛ ازدحام واختناق وفوضى وكتل إسمنتية، أفقدت المدينة الجميلة كل معالمها، إضافة إلى الأعباء التي يتحملها المواطنون في الذهاب والإياب.