وائل عبد الفتاحصوت الطائرات كان قوياً وقريباً ومرعباً جداً. الشاب صرخ على الهاتف: «الحق الأباتشي».
الطائرات كانت على ارتفاع منخفض جداً. وصوتها جعل سكان شارع الهرم يديرون رؤوسهم بين السماء والأرض. «إنه صوت الزيارة».
استعدادات الحكومة جديدة فعلاً. أموال ونشاط وحركة. صحافي قال: «الحكومة اضطرت هذه المرة إلى تنظيف القاهرة، وتجميل شوارع الجيزة، بعدما كانت قد استسهلت اصطحاب الضيوف المهمّين إلى شرم الشيخ».
ملاحظة مهمّة جداًَ، وهي أن أوباما هو أول رئيس أميركي في العشرين سنة الأخيرة الذي يقرر أن تكون زيارته للقاهرة لا لشرم الشيخ. للبلد لا للمنتجع. وهذه علامة مهمّة يمكن إضافتها إلى علامات أخرى، بينها اختيار جامعة القاهرة، وهي هيئة مدنية لا دينية، بناها المجتمع لا الحكومة.
الاختيار هنا جزء من رسالة ذكية يريد فيها أوباما أن يعلن رغبته في التواصل مع العالم الإسلامي، وبالتحديد الجزء الذي استطاع أن يخرج من عصور ظلام حالكة إلى أنوار العلم والتفكير.
أوباما يعرف ما يريد من مصر، ومن زيارته إلى القاهرة. سيعلن من هنا اختياراته في مصالحة العالم الإسلامي، وإنهاء فترة العداء التي أعقبت أيلول ٢٠٠١. المصالحة ليست حلماً رومانسياً من الساحر أوباما. لكنها جزء من إعادة بناء إمبراطورية كانت على وشك السقوط.
إمبراطورية أدارتها مؤسسات الرأسمالية المفرطة، ودفعتها إلى حافة الانهيار. لكن أميركا تميّزت بقدرتها على استيعاب الضربات، وأخرجت من مخازنها أفكاراً جديدة، وأعلنت نهاية العنصرية بانتخاب أول رئيس أسود. لم يكن ذلك رمزاً فقط لانتصار أصحاب الأصول الأفريقية، بل للثقافة المهجّنة و المختلطة. إنه خليط بين السود والبيض. المسلمين والمسيحيين. المهاجرين الأفارقة والأوربيين.
أوباما يعرف ما يريد، ولم يستجب لاقتراحات نظام مبارك بإلقاء خطابه من التجمع الخامس (مقر الجامعة الأميركية)، أو من تلك الأماكن التي أقامتها النخبة الجديدة في مصر لتكون «جنة مصنوعة ومحمية بأسوار عالية»، بعيداً عن مصر الأخرى، التي تتجاور فيها الحضارة والفقر. التاريخ العريق والقهر. التمدّن وحلف التخلف والفساد.
يعرف أنه من هنا يمكن أن يمد خطوط اتصال مع جمهور مسلم معتدل المزاج، لا يملك صنع قرار المصالحة، لكن يمكن أن يكون قاعدة شعبية لإجراءات أخرى سترفضها جهات متعددة.
يبحث أوباما عن أرضية لمحاولاته إطفاء المناطق المشتعلة في فلسطين وأفغانستان والعراق.
لا يريد حلولاً عادلة. يريد الأمن. يريد أكثر أن يحمي خطته في الارتداد من جديد داخل حدود أميركا.
يعرف أوباما ما يريد من زيارته، لأنه رمز تغيير أميركا ومرونتها. لكن هنا في مصر هناك رفض للتغيير، أو لمعرفة أجندة «ما نريد». نحتاج إلى معرفة أخرى، ووعي جديد. معرفة أن أوباما وفريق الديموقراطيين لن يغيّرا نظام مبارك. لكنهما لن يمانعا في تغييره.
سيتعاملان مع «قوى سياسية» لا حركات احتجاج. وأوباما ليس نبياً يحمل دعوته إلى الديموقراطية. إنه زعيم سياسي يفتح ببرنامج الأحلام الذي يحمله على ظهره أفقاً جديداً لبلده.
هنا تستقبل المعارضة في مصر أوباما بإدمانها القديم دور الضحية. تريد منه أن يركل مبارك ونظامه. تريد تعاطفه. وسيمنحها أوباما غالباً بعض التعاطف في كلمات قليلة. لكن التعاطف مع الضحية ليس هو الديموقراطية.
والنظرة إلى أوباما تحتاج إلى تغيير. الجميع ينظر إليه على أنه المخلّص أو المندوب السامي للرغبات. الرئاسة كانت ذكية ودعت كل القوى (بما فيها كفاية). والقوى السياسية قررت أن تحافظ على إيقاعها، وتهاجم أوباما وترفض حضور الكلمة، لكن «الإخوان» سيحضرون بعد رسالة قالوا فيها عبر مقالات في الصحف: «مستعدون للتفاهم. يمكن أن نحكم، ونحافظ على مصالحكم».
الرسالة لم تكن بهذا الوضوح. لكنها كانت بهذه القدرة على اللعب السياسي... بينما اكتفت «كفاية» بالدعوة إلى اعتصام في ميدان التحرير، وإعلان منسّقها عبد الحليم قنديل أنه تلقّى دعوة لحضور خطاب أوباما، وأنه لن يحضر لأنه لا يعرف ما هو المطلوب منه «ولا يريد أن يكون ديكوراً».