Strong>وائل عبد الفتاحكما تغيّرت القاهرة بين يوم وليلة استقبالاً لباراك أوباما وانتظاراً لمعجزته، وكما ظهرت قوى أمن جديدة تسلمت البلد ساعات الزيارة، هكذا سيكون التغيير، ناعماً و بلا منطق. قوى بعيدة عن الأعين لكن لها اليد الطولى. ربما يكون التغيير الأعنف في قوائم المتفرجين

■ ليلة أوباما



«نابليون جديد»، ابتسم الرجل وهو يعلق على صورة اوباما على الشاشة. بدا الرجل محبطاً وساخراً. نبرته المتهكمة لم تقنع احفاده. كلهم متحمسون لكاريزما الشاب الاسود وبعضهم طبع صورته على قمصان قطنية.
موديل جديد. خفيف. يلعب في دماغ شرائح جديدة لا تزال خبراتها بيضاء. يصرخون: «اوه اوباما. كم انت وسيم ايها الرئيس». وتتبع آهات الاعجاب الرئيس من لحظة وصوله الى جولته بالملابس الخفيفة بين الاهرام مروراً بصعوده السريع لدرجات سلم قصر القبة، حيث كان في انتظاره الرئيس حسني مبارك، مثقلاً بسنوات العمر وعابساً.
المسافة بين خفة الشباب وثقل الشيخوخة احد اسرار جاذبية اوباما الذي يتمتع بكاريزما داعية سياسية او دينية. محترف خطابة. اقنع جمهوره الكبير في قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة بأن خطابه مرتجل، لأكثر من ٥٩ دقيقة، بينما كانت هناك شاشة شفافة على يمينه وأخرى على يساره تتضمن استشهادات وملاحظات تنظم ايقاع الخطاب.
اوباما قدم نفسه على خشبة متقشفة إلى حد كبير، من دون هالات الرؤساء. صعد إلى المسرح بسمة المبشرين. وترك في الكواليس سلطته كرئيس اقوى دولة.
هي لعبة سياسية خطرة قرر فيها اوباما تمرير قوته الناعمة والدخول من بوابة أخرى، غير التي دخلها جورج بوش.
من هنا تشابهه مع نابليون. هكذا حكى الجد للأحفاد عن الامبراطور الذي غزا مصر قبل اكثر من ٢٠٠ سنة ودخلها بقوة المدافع. لكنه هيمن على الناس عندما كتب خطابه باللغة العربية وهز رأسه في الحضرات الصوفية بل ودخل خليفته في قيادة «الحملة الفرنسية» الإسلام وتزوج بمصرية. نابليون هو نموذج مختلف عن ريتشارد قلب الأسد، الذي يتصور أنه في مهمة مقدسة ويحرّك جيوشه تلبية لنداء الرب. اوباما وصل إلى مدينة شبه خالية. السيارات قطعت المسافة من ضاحية المعادي الى الجيزة في ٨ دقائق (في الاوقات العادية يستغرق المشوار ٤٥ دقيقة تتضاعف في ساعات الذروة).
«اين ذهب الشعب»، سخر احد المدعوين الذي فوجئ بالخواء. لم يكن هناك تجمعات امنية تقليدية.
نوع مختلف من قوات الامن منتشرة بشكل مختلف وبأعداد قليلة. «لم تنظر الى أعلى»، رد مدعو آخر، مشيراً الى «القناصة» على اسطح البيوت في مشهد لا تراه القاهرة كثيراً. وكذلك «خرجت خيول الحرس الجمهوري»، اكمل المدعو الثالث مشهد استقبال اوباما الذي لم تعشه العاصمة المصرية منذ ربع قرن تقريباً. إنه اعلان مباشر من الدولة في مصر عن سعادتها باختيار القاهرة منصة لطلة اوباما على العالم الاسلامي. الدولة سعيدة. والشعب يترقب «ماذا يحمل الرئيس الاسود في حقيبته؟».
الطلاء الابيض على جدران القاهرة القديمة كان سائلاً، والاطفال يتفرجون ويسمعون من بين كلماتهم اسم اوباما في سياقات تهكم. وعلى مقربة منهم اجتهد عمال البلدية في فرش حواجز ملونة على البيوت الفقيرة. من بين بيوت أكثر منها فقراً في كينيا خرج والد اوباما. معلومة قالها سائق التاكسي وهو يمر من بين حواجز ليلية في منطقة السلطان حسن، حيث المسجد الكبير الذي يعد المحطة الثانية في الزيارة بعد قصر القبة.
على باب الجامعة استقبل اصحاب البدلات البيضاء والقبعات الزرقاء والحمراء طوائف من المجتمع المدني. هذه هي النخبة التي اختارها اوباما لتسمعه. بجوار باب القاعة الكبرى تسلل ٥ اجانب وهم يحملون شعارات مناصرة لغزة. تابعتهم عيون «الحرس الجمهوري»، وتركتهم يشيرون للجمهور العابر لطرقات الجامعة. جمهور جديد على حرس الرئيس. متنوع، ومنفلت، ويمثل جماعات محظورة (الاخوان وأيمن نور مثلاً)، أو جمعيات مشاغبة (منظمات حقوق الانسان) تلك التي لا يمكن أن توجد في حضرة الرئيس.
انها نخبة مختلفة عن الجمهور التقليدي لحفلات النظام. الجمهور التقليدي ممثل. لكنه شارك الجمهور الجديد في تجاهل مرور كبار رجال الدولة. طابور معبّر تماماً عن هيراركية حكام الكواليس. عمر سليمان ثم جمال مبارك ثم الحكومة كلها. لم يلتفت اليهم احد.
لا موسيقى. ولا همهمات. فقط صوت ضجيج قاعة تنتظر، ومدخنون يبحثون عن طريق للخروج. الصوت الاول لرجل طلب السكوت من السادة وعندما انتبهت القاعة تلا عليهم التنبيه بترك سماعات الترجمة على المقاعد.
ضحك الجمهور ولم تصدر اصوات منظمة اخرى إلا عندما ظهرت هيلاري كلينتون. الحكايات مستمرة ورسائل التصفيق بدأت. كل تصفيق رسالة. وما حصلت عليه هيلاري «رسالة موجهة ضد الحكومة التي سارت مشواراً طويلاً ولم تحرك احداً...». إنه «انتظار للكبار».
هذه تفسيرات على الهواء لمعاني اول التصفيق. الحزمة التالية تلقاها اوباما طيلة الخطاب (٤٣ وقفة تصفيق). كانت اغلبها تصفق كلما جاءت كلمة اسلام او استشهاد بآيات من القرآن. وهذه رسالة تعبّر عن شعور بالعجز والاضطهاد. لم تشغل النخبة المستمعة لأوباما سوى الاشارة الى الاسلام او للمسلمين. انها قلة حيلة. وشعور بالضعف. رسائل من شعوب معطلة عن العمل. تنتظر المعجزات من خارج حدودها.
المطبعة من نابليون. ومجرد التذكر من اوباما. الشعوب الاخرى مدربة على الدفاع عن نفسها. ولديها ما يمكن تسميته الغريزة السياسية التي تجعلها تجدد حكامها حسب لحظاتها الراهنة.
أميركا وهي تسقط اختارت رئيساً اقرب الى المسيح. يحمل رسالة سلام للعالم الذي احرقه جنون بوش وتصوراته التي لخصها خطاب رامسفيلد عن جيش الرب.
خطاب اوباما كان بلا مفاجآت تقريباً. لكنه لا يخلو من ذكاء قادر على صنع شعبية اكثر من قدرته على تقديم اساسيات تغيير واقع سياسي. أوباما يبني من جديد قاعدة شعبية لأميركا تكون بديلاً للفرق العسكرية والبوارج وحاملات الطائرات. ولهذا حرصت فرق السفارة على أن يكون المجتمع المصري ممثلاً بكل تياراته السياسية والاجتماعية.
وبينما كان المجتمع المصري بهذا التمثيل يمكنه أن يلتقي بالرئيس الأميركي، فإن حضور الرئيس المصري حسني مبارك كان يعني استبعاد اكثر من ٧٠ في المئة من القاعة. فالرئيس في مصر لا يرى سوى حاشيته والنخبة المصاحبة له، بينما رئيس أميركا يريد كل المجتمع.
الرئيس في مصر خالد يمثل مجمع الكهنة، بينما رئيس أميركا منتخب ويمثل كل مجتمعه حتى المعارضين والخارجين عن نظامه. ودعا إلى خطابه مجموعة منتقاة استضافهم النظام المصري في سجونه.
المسيح الأميركي مر في القاهرة، وهو يقدم وجهاً آخر لأميركا، أكثر اتزاناً وثقافة وحكمة وبراعة. هو مسيح سياسي يريد اطفاء الحرائق لينال فرصة نهوض أخرى لإمبراطوريته المترنحة. انه دليل حيوية اميركا. كما كانت طريقة استقباله في مصر دلالة عجز وشيخوخة.
الرئيس مبارك كان مرهقاً الى حد كبير. والقاعة كانت منهكة تبحث فقط عمن يأتي بذكرها أو يلمح إلى قضاياها.
هذه قاعة لا تختار. إنه جمهور ممثل للمضطهدين. شعوب جريحة تنتظر المعجزات من مسيح مشغول ببلاده. وأوباما وعد بتضميد الجراح المفتوحة. وهذه مهمة ليست سهلة، وخصوصاً بالنسبة لجرحى لم يتوقعوا أن يهتم أحد بتضميد جراحهم.
أوباما لم يعقد مصالحة بين أميركا والعالم الاسلامي فقط. بل عقد مصالحة بين الحكام وشعوبهم. للمرة الاولى يلتقيان على الفرح بزيارة شخص ما. وهي مصالحة غريبة غير معلومة النتائج. هذا طبعاً ان استمرت ١٠ دقائق بعد مرور المسيح الاميركي بالقاهرة.

■ ١٠٠ يوم قبل الاعتزاللكن مرتضى عاف طريق النجومية من وقتها. نال شهرة في المحاماة رغم أنه لم يُعرف بجولات ولا صولات في قاعات المحاكم والمرافعات، لكنه مشهور بإنهاء القضايا بطرق تخصه وبأسلوب أصبح لصيقاً باسمه.
قفزت شهرته مع ظهور الفضائيات وحاجتها للإثارة، وخروج عن الطريقة المألوفة في استقبال الضيوف المؤدّبين الباردين.
كان مرتضى ضيفاً منفلتاً؛ يهاجم الجميع ويتجرأ على كل خصومه (في المجالات المتعددة من مجلس الشعب إلى نادي الزمالك ومن صراعات حول القضايا إلى معارك مع الصحافة).
في كل الأحوال، أصبح مرتضى منصور من روّاد الفضائيات. «فقرة» تضمن للقناة منتهى الجاذبية. لم يكن وحده طبعاً. لكنه كان متميزاً بنوع خاص من العنف لم تستطع شاشات السينما تقديمه. وحتى المختلفون مع مرتضى أو أسلوبه، لم يكن من الممكن أن يفوّتوا واحداً من استعراضاته.
كان وراء الاستعراض سرّ، هو غالباً الانفلات عن معايير الأدب التقليدية ومراعاة اللياقة، وخصوصاً أن انفلات مرتضى يوجّه لخصوم يتمتعون بجبروت أو بصفاقة تمنع من الاقتراب منهم. هو يعرف خطوطه الحمراء جيداً، وانفلاته له حاجز لا يتخطاه لأنه في الأساس يدافع عن شبكة مصالحه المعقدة.
ولا يخفى على الخبراء (به وبالمعارك من هذا النوع) أن طاقة الانفعال التي يفجرها مرتضى على الشاشات، هي طاقة دفاعية تهدف إلى تخويف الخصم وتكوين غطاء يمنع الاقتراب منه على أساس «احذروا من أن مرتضى لغم طائر».
كان مرتضى، بالنسبة لجماهير واسعة محبطة وعاجزة، بمثابة «الرجل المناسب» للانتقام من «العصر المناسب». «رجل مناسب» ليس بمنطق الاختلاف، ولكن بمنطق أنه «لا يفل الحديد إلا الحديد» ولا بد من فتوة لمواجهة البلطجية.
لكن هذه النظرية اصطدمت بأن معارك الفضاء التلفزيوني شيء، وإدارة مؤسسة ولو رياضية أو تمثيل برلماني والدخول في قلب الحياة السياسية، شيء آخر تماماً.
هنا، ظهر مرتضى منصور كشخص عادي بل وأقل من عادي.
كما أنّ الحكم عليه بالسجن كشف أن الحماية التي يتصورها الناس مرفوعة عنه، وهذا ما نزع جزءاً كبيراً من أسلحته وانطفأت نجوميته شيئاً فشيئاً. ثم تحالفت عليه المؤسسات التي استهدفها في إهاناته (من نادي الأهلي بجماهيره الكبيرة إلى نجوم في مؤسسات حاكمة أياديها تطال كل منفلت).
هنا تبدو خسارة مرتضى في انتخابات نادي الزمالك مؤشراً إلى نهاية فصل من فصول البلطجة السياسية.
هل هي بداية وعي جديد؟ أم تغيير ناعم باتجاه بلطجة من نوع آخر؟ هل هي نهاية استعراضات المنفلت؟ أم بحث عن مرتضى جديد؟
بثقة كبيرة، يقول الصحافي الخبير بالأسرار: «عصر مرتضى انتهى، وليس مرتضى فقط». التعبيرات الواثقة هي إشارة إلى ما يتردد في كواليس السلطة: «مصر تعيش العصر الجديد فعلاً».
عشاق التخمينات أكدوا أن «الرجل الكبير سيعتزل» (المقصود هو الرئيس حسني مبارك)، ويتصورون أن التغيير سيكون ناعماً وسلساً بعدما يتغير قانون الانتخابات وتضاف إليه «كوتا» المرأة أو ٥٠ مقعداً مخصصاً لهنّ، وهو ما يستلزم حل مجلس الشعب وعقد انتخابات عاجلة تتيح للمجموعة الحاكمة إعادة رسم خريطة القوى السياسية، مستبعدة الجزء الأكبر من «الإخوان المسلمين» (والبروفة كانت في انتخابات نقابة المحامين).
بقية خطة التغيير الناعم ستكون عبر السيطرة على مؤسسات المجتمع المدني بقانون الجمعيات الأهلية الذي سيعرض خلال أيام على مجلس الشعب أيضاً.
هكذا، فإن القاهرة ستعيش «١٠٠ يوم قبل الاعتزال» كما حاول سياسي منشق عن الحزب «الوطني» الحاكم أن يصوغ تخميناته في شكل لا يخلو من تهكم.